الناجي الوحيد.. "حظّ" لا يُحسد عليه أطفال سورية

29 يوليو 2016
هل الصغير "ناجٍ محظوظ"؟ (إبراهيم أبو ليث/ الأناضول)
+ الخط -
"محظوظ" هو اللقب الذي يطلق على من شاءت الأقدار نجاته من مجزرة قضت فيها عائلته جمعاء أو معظم أفرادها. لكنّ واقع هؤلاء "المحظوظين" يدفع إلى التساؤل عن مدى صحة هذا اللقب.

هي عشر دقائق فقط ومسافة لا تتجاوز خمسين متراً، تلك التي حالت بين أحمد المقداد (ستة أعوام) من بصرى الشام في ريف درعا، وبين الموت الذي حصد جميع أفراد عائلته. جدّه، أبو محمود عمر المقداد، كان قد اصطحبه إلى الجامع الملاصق لمنزلهم للاستماع إلى خطبة الجمعة. ويردّد أحمد ما يقول جدّه: "هذه إرادة الله.. والحمد لله". لكنّ الصغير يعبّر عن رغبته في العودة إلى بصرى، حيث الجيران والرفاق. القذيفة لم تصب إلا مبناهم السكني، وسلمت منها البيوت الأخرى، "لكنّ جدي لا يريد العودة الآن".

بحزن لا يقلّ عمّا يعبّر عنه الصغير، يخبر الجدّ (73 عاماً) أنّ "أكثر من عام مرّ على الحادثة، لكنّني حتى اليوم ما زلت أعدّ أسماءهم جميعاً، كلّ صباح ومساء. بدأت أنسى أشياء كثيرة، وجلّ ما يفزعني هو نسيان أسمائهم". الحاج عمر فقد أحد عشر فرداً من أسرته خلال لحظات، عندما سقطت قذيفة على المبنى السكني الخاص المؤلف من ثلاث طبقات. هو كان يسكن مع زوجته وابنته مريم في طبقة، فيما يسكن ولداه وعائلتاهما في الطبقتين الأخريين. تلك القذيفة استهدفتهم صباح يوم جمعة، عندما كانت الأسرة الكبيرة مجتمعة حول مائدة الفطور. ما إن غادر الجدّ والحفيد المنزل، حتى سقطت تلك القذيفة وقتلت زوجته وابنَيه مع زوجتيهما وثلاثة أطفال، إلى جانب ابنته العزباء وكذلك ابنته المتزوجة مع طفلتها (ثمانية أشهر).

بعد المأساة التي أصابته، انتقل الحاج عمر إلى بلدة القريا المجاورة التابعة لمحافظة السويداء. هو لم يكن يفكّر إلا في كيفية حماية حفيده وإخراجه من مكان سيبقي ذاكرته مشتعلة بما رآه بعد سقوط المنزل واستخراج الجثث من بين الركام أو أجزاء منها. أحمد الصغير جدّ متأثّر بما شهده، وهو يعاني من التبوّل اللاإرادي. على الرغم من تلقيه علاجات مختلفة، إلا أنّ حاله لم تتحسّن بعد. وهذا أمر طبيعي بحسب اختصاصية في علم نفس الأطفال، فضّلت عدم الكشف عن هويّتها. تقول: "أحمد في حاجة إلى فترة طويلة كي يشفى من الرضّ النفسي الذي تعرّض له. مجرّد رؤيته لجثث أهله التي انتشلها الناس من تحت الركام، كافية لإحداث حجم كبير من الأذى النفسي الذي ينعكس بأعراض فيزيولوجية لن تزول بسهولة".

لم تحصِ بعد منظمات المجتمع المدني ولا شبكات حقوق الإنسان أعداد الحالات المشابهة لحالة أحمد، لكنّ المؤكد أنّ الرقم سوف يكون فلكياً. مجرّد الحكايات والقصص التي يتناقلها السوريون عن أقارب لهم أو معارف، كافية حتى تكون مؤشراً قوياً إلى حجم الكارثة التي تمتد جغرافياً على كل المحافظات السورية من دون استثناء.

في حلب على سبيل المثال، استطاع رجال الدفاع المدني انتشال صبيّ من تحت الأنقاض، كان الناجي الوحيد من عائلته التي قضى أفرادها الخمسة بعد مجزرة في الميسر في الثالث من سبتمبر/ أيلول 2015. يبلغ حسين، الذي تعرّفت إليه إحدى النساء في المستشفى الميداني، نحو عام واحد. وقد نُقل بعد انتشاله من حضن والدته نجاح، دائماً بحسب المرأة نفسها، فيما لم يستطع رجال الإنقاذ انتشال جثة والده. هكذا، خلال لحظات، تحوّل حسين حجو إلى يتيم بلا عائلة ولا بيت، لكنّ "عمره الصغير قد يحميه من الأعراض الشديدة التي ترافق عادة مثل هذه الحالات". هذا ما تقوله الاختصاصية في علم النفس ريم عبد الرحمن.



تتكفّل بعض الجمعيات المدنية الأهلية في حلب برعاية حالات مشابهة لحالة حسين، عندما لا يتوفّر أيّ من الأقرباء لذلك. لكنّها كلها تعاني من ضعف القدرات المادية، فيما لا تسلم مما تتعرض له المدينة من قصف ودمار.

ليس بعيداً عن حي الميسر، لكن بفارق تسعة أشهر، تمكّن عناصر الدفاع المدني من انتشال أحمد كريم من تحت ركام منزله في حيّ الباب في حلب، في 20 يونيو/ حزيران 2016. بعد قصف جوي، قضى والد أحمد ووالدته وشقيقه إلى جانب اثنين من أقربائه. لحظة انتشاله، كان أحمد شبه مشلول ومغطى بالدماء في حين تعددت الجروح في رأسه وقدمَيه. لكنّ الجروح الجسدية قد تكون قابلة للشفاء، على عكس ما تترك مثل تلك اللحظات القاسية.

عائشة، طفلة أخرى حرمتها الحرب من طفولتها باكراً. كانت برفقة أختها ووالدتهما وجارتهما وأولادها الثلاثة، عندما أصابت المنزل في مدينة بنش في ريف إدلب، قذيفة أدّى انفجارها إلى تهدّمه فوق رؤوس من فيه. غابت عائشة (عشرة أعوام) عن الوعي لفترة قصيرة بعد الانفجار، لتصحو تحت الركام وترى بالقرب منها رأساً لم تتبيّن ملامحه. فراحت تصرخ وتستغيث بوالدتها، وظلت تصرخ حتى عثر عليها رجال الحيّ وانتشلوها من تحت الأنقاض. حاول والدها إقناعها بأنّ أمها قفزت من الشرفة وأنّها ما زالت على قيد الحياة. لكنّ صدى صراخها ظلّ يتردّد في المستشفى.

في حالات أكثر قسوة ربما، تنتشر على شبكة الإنترنت تسجيلات فيديو عديدة لأطفال شهدوا قتل عائلاتهم بالسكاكين أو بالرصاص، وربما هي الحالات الأصعب التي قد لا تزول آثارها بمرور الزمن. في حيّ السبيل في حمص، أنقذ نبيل عبد السلام، وهو طفل في الخامسة من عمره. وجده قائد إحدى كتائب الجيش الحرّ مختبئاً في سقيفة منزل العائلة. بقي هناك خمسة أيام بين خمس جثث. تسجيل الفيديو الذي بثّته "شبكة البياضة الإخبارية" للطفل أثناء فحصه من قِبل طبيب في الثالث من إبريل/ نيسان 2012، يظهر بوضوح موجع حجمَ الصدمة التي يعاني منها نبيل. لم يكن يأتِ بأيّ ردّ فعل، وكان صامتاً كشبح. وحين سأله الطبيب عن أبيه وأمه وإخوته، أجاب أنّهم جميعاً في السعودية، على الرغم من أنّه في الحقيقة عاش مع جثثهم لخمسة أيام، ليكون الناجي الوحيد "المحظوظ" من بين ثلاث عائلات قضت في تلك المجزرة.

أمثال نبيل عبد السلام بالمئات، وهم يحتاجون إلى رعاية قد تعجز عنها دول. لكنّهم في معظم الحالات، لا يتلقون أيّ نوع خاص من العناية، لغياب المؤسسات القادرة على تقديمها في الداخل السوري، في حين تبقى المحاولات الفردية لتقديم الدعم بسيطة جداً بالمقارنة مع حجم الكارثة الإنسانية التي تشهدها البلاد.