الموسيقى والصمت... الفراغ الذي رأى التفاصيل

02 فبراير 2020
جون كيج عام 1988 (بول بيرغن/ريدفيرنز)
+ الخط -
في رواية La double vie de Théophraste Longuet التي كتبها الكاتب الفرنسي، غاستون ليرو، سنة 1903، يجتمع شعب "تالبا" الخيالي، الذي يقطن سراديب الموتى المظلمة والصامتة في باريس، ليقيم حفلات موسيقية صامتة. 

بالتأكيد لم يكن ليرو يتصور أن هذه الشطحات التي قام بسردها في روايته الخيالية بسياق هزلي، من الممكن أن تتحقق يوماً ما؛ لكن الموسيقي الأميركي جون كيج (1912 ــ 1992) فعلها سنة 1952 في مدينة وودستوك في نيويورك، عندما جمع الجمهور لتقديم مقطوعته الإشكالية والشهيرة "أربع دقائق وثلاث وثلاثون ثانية"، المكونة من ثلاث حركات، ولا يُعزف فيها سوى الصمت المطلق.

علاقة الصمت بالموسيقى علاقة عضوية، وعلامات الصمت التي ملأت النوَت التي قدمها كيج لعازف البيانو الذي أدى العرض الموسيقي المنفرد، ديفيد تودور، هي جزء لا يتجزأ من التأليف الموسيقي. ورغم سلبيتها فإنها لا تقل أهمية عن أي علامة أخرى من العلامات الموسيقية الإيجابية. ولعلامات الصمت في الموسيقى سبعة أشكال تشير إلى الصمت وزمنه ضمن النوتة، وهي: "الزفرة"، و"البرهة"، و"اللحظة"، و"نصف اللحظة"، و"ربع اللحظة"، و"ثمن اللحظة"، و"سدس عشر اللحظة"؛ ومن خلال استخدام هذه العلامات يتم تحديد الفراغات الزمنية أو السكتات في المقطوعة الموسيقية.

وقد تمت الإشارة إلى أهمية هذه اللحظات الصامتة في الموسيقى قديماً، فخلّد المؤرخون مقولة تعود للنصف الثاني من القرن التاسع عشر على لسان المؤلف الموسيقي الفرنسي، كلود ديبوسي، وهي: "الموسيقى ليست النوَت التي نؤديها، إنما الفراغات التي تفصل بين النوَت".



ولا يقتصر دور علامات الصمت السلبية على المباعدة الزمنية بين العلامات الموسيقية الإيجابية وحسب لإحداث التناغم، بل في بعض الأحيان يكون للحظات الصمت دور كبير في تشكيل المعنى؛ معنى قد يكون هزلياً، كما هي الحال في رباعية "المزحة" لهايدن، التي يقوم فيها بالاعتماد على تكرار حركة موسيقية لطيفة يبترها بالصمت ليوحي بنهايتها، لكنه يعود لاستئنافها بعد لحظات، مع إجراء بعض التعديلات في مسارها؛ ويكرر هايدن لحظة الصمت التي تجسد نهاية زائفة سبع مرات، قبل أن ينهي المقطوعة بذات النهاية الزائفة، ليترك انطباعاً هزلياً عن مفهوم النهاية والاستمرار من خلال موسيقى الصمت التي يستخدمها.

في أحيانٍ أخرى يكون للصمت، كعنصر في صناعة الموسيقى، دور درامي غامض؛ وهذا الدور يعتبر أحد أبرز إنجازات بيتهوفن وإسهاماته في تطوير الموسيقى الغربية، الذي يشار إليه عادة بأسلوب "الصمت المتفجر". هذا الأسلوب يختلف بشكل تام عن أسلوب الوقفات الهزلية، ففيه يتم تكوين نسق موسيقي يبني معه المستمعون علاقة روحية تجعلهم يتخيلون أنفسهم قادرين على التنبؤ بالجملة الموسيقية التالية. لكن في لحظة الذروة يقوم بيتهوفن بزلزلة التوقعات وإحالة المستمعين إلى موسيقى غير متوقعة. وأبرز مثال على ذلك هو سيمفونية بيتهوفن الثالثة، التي يبدأ فيها بخلق سلسلة من الأفكار الموسيقية التي تتصاعد لتحدث تأثيراً شعورياً عنيفاً، وبعد سلسلة من النغمات الوحشية المتنافرة يصل إلى لحظة الذروة، فيكرر السلسلة بعنف أكبر وبنسق تصاعدي. في الوقت الذي يتوقع المستمع المزيد من الضربات الموسيقية المتوترة، ينتقل بيتهوفن إلى الصمت بشكل مباشر ومفاجئ، ليحدث فراغاً مخيفاً. وقد صنف عالِمَا الموسيقى غروسفينور كوبر وليونارد ماير في كتاب The Rhythmic Structure of Music (1960)، لحظة الصمت هذه بـ"أكثر لحظات الصمت صخباً في تاريخ التأليف الموسيقي"

لذا يمكن القول، إن الرغبة بخلق المعنى من خلال استخدام نغمة الصمت في الموسيقى، ووجود فكرة أو دلالة وراء تكرار فترات الصمت أو إطالتها، حررت هذه اللحظات دورها الوظيفي، الذي يتمثل بكونها سكتات لا غنى عنها في أي قطعة موسيقية، وأعطتها دوراً أكبر شأناً في الموسيقى الحديثة؛ وجاء ذلك كنتيجة لإدراك الأثر الذي تخلفه لحظات الفراغ لدى المستمعين. وكان لهذه الجهود الإبداعية في فن الموسيقى أثر بالغ أيضاً في فنون أخرى، خصوصاً المسرح؛ فتمكن الكاتب الروسي أنطون تشيخوف من ترجمة الحالات الشعورية للصمت في الموسيقى بنصوصه المسرحية، التي ميّز فيها ما بين: "الصمت"، و"الصمت القصير"، و"الصمت الطويل"، و"الصمت الطويل جداً".

وبالعودة للحديث عن مقطوعة كيج، "أربع دقائق وثلاث وثلاثون ثانية"، فإن جلوس عازف البيانو على المسرح لهذه المدة الزمنية لم يكن بغرض تقديم عرض ساخر كما يظن البعض. وهو لا يشبه كثيراً تلك الكتب ذات العناوين الجذابة والصفحات الفارغة التي تحولت إلى موضة ما بعد حداثوية؛ رغم تنويه كيج إلى معرفته بكتاب مشابه يعود تاريخ نشره إلى القرن التاسع عشر. ما كان يفكر به الموسيقي حقاً هو العمل على مقطوعة موسيقية يقدم فيها الصمت، على اعتباره شكلًا من أشكال الموسيقى، وقد تطلب ذلك منه جهداً وبحثاً استغرق أعواماً. وكان من بين التجارب التي قام بها، الدخول إلى غرفة عازلة للصوت ليحاول سماع صمت المكان. وذكر أنه في تلك المساحة تمكن من سماع صوتين، ليفكر بعدها جدياً بتقديم عرضه الموسيقي الصامت. أما الهدف فكان السماح للجمهور سماع الأصوات الداخلية والانغماس بحالاتهم الشعورية التي حملوها معهم إلى قاعة العرض، أو بأسوأ الأحوال إلى الأصوات الناجمة عن احتكاكات الأجساد البشرية وباقي العناصر الفيزيائية، التي تحدد موسيقى الصمت في المكان. لذا كان يتم إجبار الجمهور الحاضر في تلك القاعة على الإنصات للصمت لمدة أربع دقائق وثلاث وثلاثين ثانية، وهي تجربة فنية موسيقية حقيقية، أكثر عمقاً وأصالة من نشر كتاب فارغ، يدرك مؤلفه أن القارئ لن يكرس وقته للتأمل بصفحاته البيضاء.


رؤية جمالية مضادة
بعيداً عن الموسيقى الغربية، تعود أوّل إشارة تاريخية للموسيقى الصامتة إلى القرن الأول، في الشرق الأقصى، تحديداً في اليابان. هناك عُثر على الجرس الياباني "دوتاكو Dōtaku"، الذي تم تصنيعه من دون لسان. إذ لم يكن الهدف منه إصدار صوتٍ موسيقي، بل على العكس تماماً، اعتبر آلة صامتة. وقد اعتاد اليابانيون على دفن هذا النوع من الأجراس ضمن حالة طقسية، تهدف لمباركة المحاصيل الزراعية. نحن لا نتكهن هنا ببذور استشراقية لدى جون كيج أو غيره من الموسيقيين الغربيين الذين آمنوا بالصمت المطلق كحالة موسيقية؛ إذ ليس هناك ما يشير إلى حالة استنساخ أو استنباط لفنون الشرق الأقصى، كالتي نعثر عليها مثلاً في مسرح "الشمس" للفرنسية آريان منوشكن، التي استحضرت مسرح الكابوكي الياباني في عرضها "طبول على السد". ولا يمكننا القول بأن الحالة الطقسية التي خلقها كيج على المسرح مستوحاة من الطقوس الشرقية.

لكن ما تجدر الإشارة إليه، من خلال المقاربة بين الشرق الأقصى القديم والغرب ما بعد الحداثوي، هو أن الموسيقى الصامتة هي حالة طقسية، تتحول فيها الموسيقى من فن سَمعِي إلى فن يتطلب الاستشعار بحواس أخرى. وذلك لا يتم إلا بمساعدة عناصر مرئية خادعة، سواء أجراس "دوتاكو" اليابانية التي يلوّح بها الكهنة من دون أن تحدث ضجيجاً، أو النوتة الموسيقية التي تملؤها علامات الصمت.

فهذه الموسيقى تعتمد على العنصر البصري والإيحاءات التي تتركها الأغراض المستخدمة والأفعال أكثر من اعتمادها على الموسيقى نفسها؛ فتجوّل كهنة يحملون الأجراس، وجلوس عازف أمام البيانو، هي أفعال توحي للمتلقي باستقبال جملة من الأصوات. وعدم إصدارها يحوّل الحركة الصامتة إلى فعل مسرحي؛ وهذه الحالة الممسرحة يبدو أنها تتطلب بعض المبالغة، فقسّم كيج مقطوعته إلى ثلاث حركات، ودفن الكهنة الأجراس في نهاية استعراضهم. وليس هنالك ما يفسر هذه الحركات سوى رغبة المؤدي، إيهام المتلقي بأهمية الفعل الذي يقدمه رغم سلبيته. لذا قد يبدو من غير المنطقي تصنيف هذا النوع من العروض ضمن خانة الموسيقى. ربما قد يجد البعض أنه من الأجدر بنا القول إن "أربع دقائق وثلاث وثلاثون ثانية" واحد من أغرب العروض في القرن العشرين. لا نقصد بهذا الكلام تجاهل أهمية الصمت في الموسيقى؛ ولكن يجب أن نبدأ بالسؤال: هل يكفي الصمت لصناعة الموسيقى؟

لكل مكانٍ، موسيقى صمت خاصة به، وقد يشكل بعض هذه الأماكن أو الفضاءات حالات رومانسية تستقطب شريحة واسعة من الناس، كالغابات والبحار، أو حتى صوت الأمطار في سيارة مغلقة يسودها الصمت؛ جميعها حالات صوتية قد ندرك موسيقاها ونتمتع بجماليتها. لذا يجب إعادة تركيب السؤال: هل يكفي أن يقوم الفنان باقتطاع صمت المكان لصناعة الموسيقى؟
إن ما قام به جون كيج كان عملاً فنياً بالغ الأهمية، حتى على المستوى الموسيقي لكونه تمكّن من لفت النظر إلى مفهوم موسيقى صمت المكان وجماليته. لكن لا يمكن تكريس هذه الحالة بوصفها ثورة على الفن وتأسيس لرؤية جمالية مضادة، وإلى ما هنالك من قراءات حاولت أن ترسخها المدارس الفنية العدمية لمقطوعة جون كيج.

دلالات
المساهمون