الموت على الهواء مباشرة
وديعة فرزلي
أذكر جيداً التفصيل التقني المتعلق بطريقة بث وتصوير الحدث، حيث نقلته كاميرات من هوليكوبتر مرافقة. أما الكاميرات المثبتة ببدلة فليكس فكانت للتسجيل وليست للبث الحي، ذلك تحسباً للمخاطر الكبيرة التي كانت بالحسبان، حتى أنه قيل فيما بعد إن البث الحي لم يكن مباشراً بالمعنى الحرفي، حيث تم تأخيره بضع ثوانٍ، تفادياً لاحتمال وفاة المغامر النمساوي مباشرةً على الهواء.
هذا الاحتمال لم يكن متوقعاً عندما اغتيل السفير الروسي أندريه كارلوف على الهواء مباشرة، في 19 ديسمبر/كانون الأول 2016 في أنقرة أثناء زيارته لأحد المعارض الفنية. تجنب نقل حوادث الموت على الهواء مباشرة معيار مهني وأخلاقي فقد قيمته بعد إضافة فيسبوك ميزة البث الحي live streaming في أغسطس/ آب عام 2015. لم يعد النقل المباشر لحوادث مميته حدثاً نادراً، حيث وثّق العديد من الأشخاص لحظات انتحارهم أو موتهم المفاجئ من خلال هذه الميزة.
وبالرغم من أننا رأينا في السنوات الأخيرة الكثير من مقاطع الفيديو التي توثّق قطع الرؤوس، الأجساد المعلقة رأساً على عقب تعذب حتى الموت، وضع البشر في أقفاص وحرقهم أحياءً... وغيرها من الفظائع والجرائم الإنسانية التي تبثها الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل شبه يومي. لكن فيديوهات الموت المسجلة، تتيح لك على الأقل حرية المشاهدة أو تجاهل الفيديو.
أما البث الحي الذي ينتهي بموت الفرد، المخطط له كما في قصص الانتحار، أو الموت المفاجئ، فيجعلك متورطاً بحادثة الوفاة بمجرد انضمامك للبث الحي، لأنها تلغي المسافة الزمنية الفاصلة بين حدوث الواقعة ونقلها أو تسجيلها. والفرق بين فيديو مسجل لموت أحدهم أو متابعة موته مباشرة، يشبه الفرق بين الفيلم السينمائي الذي يخضع للمونتاج والتعديلات، والعرض المسرحي الحي الذي ينتهي بموت المؤدي.
لكن في الوقت ذاته هذا الوسيط (البث المباشر) لا يسمح لك كمتفرج بالتدخل لإنقاذ المؤدي أو منع حدوث الوفاة، أقصى ما يمكن فعله هو التعاطف، مشاركة الفيديو لاحقاً، وتقبل حقيقة الموت بأسرع ما يمكن، متجاوزاً كل ما هو إنساني وبشري، في التعامل مع اللغز الغامض في حياة البشر.
بعد استثناء حوادث الموت المفاجئ لأشخاص أثناء البث المباشر، باعتبار أنها قضاء وقدر، تواجهنا فيديوهات البث المباشر لحالات الانتحار بمئات الأسئلة... ما الذي يدفع أحدهم لتسجيل صوت ارتطام جثته بالأرض، أو صوت غرغرة أنفاسه الأخيرة وهو ميت على أية حال؟ من الصعب إيجاد تفسير منطقي لغايات المنتحر لكن هذه الحاجة الملحة لجذب انتباه العالم إلى الفرد الواحد ولو أنه ميت ليست تفسيراً مبسطاً، بالطبع لا يصح افتراض أن أحدهم قرر الانتحار والموت بسبب رغبته بجذب انتباه الآخرين، إلا أن توثيق الانتحار عبر البث المباشر كرسالة أخيرة يتركها المنتحر هي محاولته الأخيره للتأثير في العالم وإسكاته لدقائق، ولربما إيلامه. وعلى الجانب الآخر من العالم، يتفاعل المتابعون مع الخبر بتعليقات تعبر عن صدمتهم وحزنهم، يهتز العالم لهذا الخبر لساعات أو أيام وبعدها يتلاشى الأثر ويبقى الفيديو مخزناً في الأرشيف، وثيقة لمنع الالتباس حول انتحار أحدهم.
قبل أيام، بث لنا "أبو مروان" مباشرة من ألمانيا فيديو يشرح لنا فيه كيف ارتكب جريمته بحق طليقته، وزودنا بوثيقة تكاد تكون الأولى من نوعها، عن قاتل يتفاخر بجريمته التي يلصق بها صفة الشرف كمبرر لفعل القتل.
ويظهر ملطخاً بدماء ضحيته، بعد لحظات من طعنها. ليس من الصعب أن نتخيل المرأة المطعونة، ممددة في الكراج – مسرح الجريمة - تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ وربما كانت تحاول أن تقول شيئاً ما... هذه المرأة أيضاً ماتت على الهواء مباشرة، حتى لو أن كاميرا أبو مروان لم تصورها، إلا أنها لفظت أنفاسها الأخيرة بينما كان أصدقاء "أبو مروان" ومتابعوه يستمعون إلى رسالته عن الرجولة والشرف.
استخدم القاتل ميزة البث المباشر كحيز افتراضي، للإعلان عن جريمته التي اعتبرها فعلاً بطولياً يستحق النشر. يبدو هذا الحيز الافتراضي كساحة عامة، تجمهر فيها الناس ليشهدوا تنفيذ حكم القتل بحق امرأة خارجة عن إرادة وطاعة زوجها السابق. مع فارق وحيد وهو أن الجمهور هذه المرة لم يشهد مراحل تنفيذ الجريمة، لكنه رأى آثار الدماء التي لطخت وجه وثياب ويدي "أبو مروان".
انتقلنا مع البث الحي لجريمة "أبو مروان" إلى مستوى أكثر تعقيداً، يرتبط أولاً بالمبررات الاجتماعية، الأخلاقية والنفسية التي سمحت له التفاخر بفعل القتل، ومشاركة الجريمة علناً. وثانياً، يتعلق بنا نحن المتفرجين، للأسف لا شيء جديد فيما يتعلق بدورنا كمتلقٍ سلبي، نرى فيديوهات الموت المسجلة أو المباشرة، دون امتلاك أي قدرة على الوقوف بوجه الموت أو القتل، لكن هذه المرة كانت مخيفة ومرعبة، هذه الدرجة من الإمعان والتفنن بالقتل وتوثيقه.
إغراقنا بالذنب بالرغم من عدم قدرتنا على تغيير أي شيء.. المشكلة هي في هذا الوسيط اللعين (البث المباشر) الذي يعرضنا إلى أعلى درجة من درجات الانكشاف الذاتي، ويمسرح لنا الموت كواحد من أعقد أشكال فنون الأداء، التي تصلح لأن تختبر خلالها ردود أفعال المتفرجين/المتابعين وسلوكهم وأثرها النفسي عليهم. في حين يجيب أحدهم، الأمر طبيعي للغاية، نحن معرضون لأن نشهد موت أحد الأشخاص من حولنا في كل لحظة، سواء في الشارع أو البيت أو ... وبالتالي البث الحي لموتهم لن يغير شيئاً، ولا يجب أن نشعر بالذنب المبالغ به حيال موتهم. يبدو ذلك مريحاً ومنطقياً وحيادياً إلى درجة لاإنسانية.
كل ما هنالك أن الكيس الذي يوضع على رأس المحكوم بالإعدام لحجب تعابير وجهه الأخيرة، نظراته وغرغرة أنفاسه أثناء شنقه، نُزع إرضاءً للفضول البشري... هذا المستوى من الفضائحية عصي على الفهم أحياناً، لكن ما من مهرب، علينا الاعتياد عليه وتدريب أنفسنا على تقبل المزيد منه.