الموت الفلسطيني الجديد

12 أكتوبر 2014
+ الخط -

بالتأكيد، ليس موت فلسطينيين خبراً جديداً. وفي سنوات الموت التي نعيشها، لم يعد موت الفلسطينيين خبراً أصلا. وليس خبراً جديداً، أيضاً، أن تصل إلى شواطئ المتوسط جثث منتفخة متفسخة لغرقى. الجديد قول مؤسسات حقوق إنسان إن كثيرين من هؤلاء الغرقى فلسطينيون يهاجرون، كإخوتهم من جنوب هذا العالم إلى شماله. والجديد، أيضاً، أن هؤلاء الفلسطينيين لا يجدون من يتشدق بتمثيلهم، والدفاع عنهم. يمضي موتهم بسهولةٍ مفرطةٍ، في وقت يتخلص فيه فريق فلسطيني في غزة من أعباء تمثيل الفلسطينيين، وتحمل مسؤوليتهم، ويتردد آخر في توسيع دائرة التزاماته، بعد أن استراح سنواتٍ في تخومه الآمنة في الضفة.

كانت شعارات منظمة التحرير الفلسطينية، وخطاباتها، أرحب بكثير مما فعلت، إلا أنها، وعلى صعيد الخطاب الرسمي الذي حفر في وعي الفلسطينيين، كانت ممثلة للفلسطينيين أينما وجدوا، على الأقل وجدانياً، وقد يصح القول إن هذا التمثيل العام الشامل هو الافتراق الأساسي بين المنظمة والسلطة الفلسطينية التي انكفأت لتمثل، رسمياً، في قالب دولاتي، الفلسطينيين في مناطق سيطرتها، وسيطرتها مفردة طريفة في حال السلطة. والخلاصة أن ما جرى هو تقليص للتمثيل إلى أضيق مستوياته، بعد أن كانت المنظمة تتسع وتتسع، لتشمل الشتات الفلسطيني في كل أنحاء الأرض، ضاقت السلطة وضاقت، حتى بالكاد غدت تمثل فلسطينيين في الضفة وغزة.

اليوم، تظهر في صورة قاتمة أليمة فئة من الفلسطينيين غير الممثلين يموتون بطريقة معهودة، إلا أنها ليست من اختصاصهم. ويبدو أن الفلسطينيين يدفعون ثمن انعدام خبرتهم في التعامل مع صروف مياه المتوسط، ويبدو أن فسحة الزمن لم تسمح للسوريين، مثلاً، بتلقينهم دروس الحذر، وهم يعبرون صوب الشمال. ولم تتسع الظروف، ليستمعوا ملياً من إخوتهم الأفارقة عن ألاعيب سماسرة الهجرة والأثمان الرخيصة للموت. حتى أشكال جثث الغرقى جديدة على الفلسطيني، يمكن أن يتحدث الفلسطيني، طويلاً، عن جثة محروقة، أو أشلاء مقطعة، أو رائحة دم الشهداء، إلا أنه لن يفهم اللون الأسود للجلد، ولا انتفاخه، ولا تكوّره، ولا الموت من دون دماء. هذه خبرة جديدة.

ومما تعني أن الاستثناء الفلسطيني لم يعد استثناءً، الفلسطينيون يهاجرون مدفوعين بأسباب مطابقة لأسباب شركائهم في قوارب الموت، يهاجرون بحثاً عن حياةٍ قيل لهم إنها أفضل. والصراحة مع النفس تقتضي القول إن كثيرين منهم، وربما من ماتوا في البحر أخيراً، لا يهاجرون هرباً من الموت أو القتل، بل بحثاً عن عمل أو حرية أو رؤية أحبة وجمع شمل، أو جنسية أخرى خفيفة، يتبعها جواز سفر لا يستفز قوى الأمن في المطارات، وتحديداً العربية.
وفي المقابل، هنالك، سلطة باختلاف تسمياتها وتعريفاتها، تتصرف كدولة في جنوب هذا العالم، مبنية على تهميش اقتصادي وتبعية استعمارية، المرتاحون في ظلها مرتاحون لأنهم منها ومعها، والآخرون آخرون بكل ما للكلمة من معانٍ متجددة في المنطقة العربية. أما من يقعون خارج حدود متخيلة لهذه السلطة، فهم آخرون، مرتين وأكثر، ولا تشملهم حتى الإدانات والمطالبات بالتحقيق والوعود بالعمل على إيقاف تفتت تلك القوارب، بمن عليها في عرض البحر، البحر نفسه الذي أفرط الفلسطينيون في التغني به، والنظر إليه بحنينٍ مضاعف.

لا شيء في حياة الفلسطيني له قدرة هائلة على التوسع والتنوع مثل الموت، حتى غدت كل الميتات طبيعية، إلا أن التخلص من لعنة الطبيعي تقتضي، اليوم، التمعن في صورة طفل فلسطيني ملقى على شواطئ ليبية. ومن المهم ربما التبصر في تلك الصور، من دون تدقيقٍ في جنسيات أصحابها، أو ألوانهم، لمعرفة أين تقع فلسطين اليوم. ولعل من ميزات مياه المتوسط أنها تذيب الألوان، وتموه الأجناس والأعراق، وتذيب حبر الوثائق الرسمية والأوراق الثبوتية، فكل غريق غريق وحسب.

 

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين