جمعتهم الهموم المعيشية والقضايا المطلبية على تنوّعها وتعدّدها، فتلاقوا لبنانيّون ولبنانيّات عند تقاطع السوديكو القريب من وسط بيروت، قادمين من ثلاث مسيرات شهدتها العاصمة بيروت، تحت عنوان "أحد الوضوح" للدلالة على أن أهدافهم ومطالبهم واضحة منذ بدء الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولتذكير السلطة بأن "ألاعيبها واضحة ومكشوفة، وبأنّهم متمسّكون بالسلم الأهلي في وجه كل محاولات العودة إلى الحرب الأهلية". وطالبوا بإقرار الهيئة الوطنية للكشف عن مصير المفقودين والمخطوفين اللبنانيين منذ العام 1975.
من أمام المتحف الوطني في العاصمة بيروت، احتشد المشاركون والمشاركات من "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان"، و"تجمّع مهنيّات ومهنيّين"، و"نساء ضد الحرب"، و"التيار النقابي المستقل"، وعدد من أساتذة التعليم الجامعي والثانوي والأساسي، إلى الناشطين والحقوقيين من مختلف الجمعيات والتجمّعات. وانطلقوا حاملين أغصان الزيتون والأعلام اللبنانية لملاقاة المسيرتين القادمتين من ساحة ساسين في منطقة الأشرفية، ومن أمام المصرف المركزي في منطقة الحمراء. فكان اللقاء عند تقاطع السوديكو أمام "مبنى بركات"، الذي كان أحد محاور القنص والقصف أيام الحرب الأهلية اللبنانية، والذي بات يُعرف اليوم بمتحف بيروت. وعلا التصفيق وعُقدت حلقات الرقص والدبكة بالتزامن مع قرع الطبول وصوت المزامير والأغاني الوطنية والصرخات الثورية الداعية إلى السلام والمحبة.
وعلى وقع هتافات "نحن الثورة الشعبية وإنتوا الحرب الأهلية"، و"إنتوا سلطة حراميّة ونحن الدولة القوية"، انطلقت المسيرات الثلاث باتجاه ساحتي رياض الصلح والشهداء، مردّدة "يا سارق مال ولادي (أولادي)، لاقيني عند القاضي"، و"نحن عرفنا شو يلّي (ماذا) صار... حكام بلادي تجّار"، و"من الجنوب للشمال... تسقط سلطة رأس المال"، و"علّي (ارفع) الصوت وعلّي الصوت... باقين بالشارع حتى الموت"، و"الهوية ثورجيّة...لا لا الساحة ما منتركها"، و"مفقودينا تعبوا عنّا وبدن (يريدون) هيئة وطنية"، و"ثوار أحرار حنكمّل المشوار".
وجاءت اللافتات التي رفعها المشاركون لتقول: "ثورتنا واضحة... علمانية، حرية، عدالة اجتماعية"، و"مطالبنا واضحة... حكومة انتقالية من خارج أحزاب السلطة وإسقاط فزاعة الحرب ونظامها السياسي"، و"حماية المجتمع لا حيتان المال"، إلى لافتات "السلام بيننا أو على لبنان السلام" و"مفقودو الحرب هم إخوتكم في المواطنة... حقنا نعرف مصيرهم".
وفي حديثها لـ"العربي الجديد"، تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد حلواني: "جئنا لنقول لا لحرب جديدة، لا لخطوط تماس جديدة، لا للمزيد من المفقودين والمخطوفين. ما زلنا نعاني منذ 44 عاماً، وآن الأوان لجعل هذه القضية قضية المجتمع اللبناني بأسره. من دون إنهاء هذا الملف لا تنتهي مفاعيل الحرب الأهلية".
من جهتها، تصرخ أسماء حسين، التي فقدت شقيقيها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتقول بلوعة: "تحمّلنا القهر والصبر والعذاب طوال هذه الأعوام، فمن حقنا أن نعرف مصير أحبائنا، هل هم أحياء أم لا؟".
ويلفت عضو اللجنة التأسيسية لـ"تجمّع مهنيات ومهنيين" طارق حجازي، إلى أنّ "تحرك اليوم يأتي في ضوء تلويح السلطة بالحرب الأهلية والفوضى في حال استمرار انتفاضتنا الشعبية، ويأتي ليؤكّد أنّنا سنتصدّى لكل محاولات جرّنا إلى العنف والاقتتال. سنبقى موحّدين بوجه الفساد وحيتان المال".
وفي المقلب الآخر، تقف أغنار عواضة، من تجمّع "نساء ضد الحرب" والذي انبثق مؤخراً بعد المسيرة الأولى لأمّهات لبنان بوجه الحرب الأهلية، وتقول لـ"العربي الجديد": "المرأة التي تمنح الحياة لأبنائها تدافع عن حياتهم بشتّى السبل، ولا ترضخ للغة الدمار والموت. أنا والدة وأعرف قيمة الأبناء، لا نريد الحرب، نريد لأبنائنا الحياة".
بدورها، تأسف صابرين سمكو لما وصل إليه لبنان، وتقول: "حرقوا الوطن ودمّروا الإنسان. تخيّلوا أنّ حفيدتي التي لا تزال في مرحلة التعليم الثانوي تحلم بالهجرة". تضيف: "لا نريد أن نكون بلداً مصدّراً لأبنائه وطاقاته، إنّما لمنتوجاته وصناعاته وابتكاراته".
وكانت غالبية النساء قد تميّزت، خلال المسيرات الثلاث، بارتدائهنّ اللون الأبيض دلالة على السلام، وحملن لافتة كُتب عليها "أمّهات لبنان أقوى من فتن الحكّام"، وصرخت بعضهنّ بالقول: "هيدا الوطن إلنا".
أمّا الفنان عبدو شاهين فيؤكّد أنّ "نبض الثورة مستمر وألاعيب السلطة واضحة ومكشوفة. لذلك، نقول لهم لعبة الحرب سخيفة وقديمة، فالشعب الذي يختبر الحرب لأول مرة تكون بالنسبة له بمثابة مأساة، ولكن عند المرة الثانية تكون بمثابة مسخرة (سخرية)، ونحن أكبر من أن نقع في سخريتهم وفتنتهم".
وفي ساحتي الشهداء ورياض الصلح، تلاقت كل المسيرات مع المنتفضين الذين توزّعوا في أرجاء الساحتين، كلّ يهتف بوجعه وألمه وقضيته.