الملك أبو علي

08 اغسطس 2016
هزمه العمر (العربي الجديد)
+ الخط -

تعِب أبو علي. أثقل همّته العمر وأرهقته العربة التي جرّها، كل يومٍ تقريباً، معظم حياته. حتى لسانه تغيّر. صحيح أنه لم يتخلّ بالكامل عن قساوته في المناكفة الدائمة مع الآخرين، لكن هذه الحوارات نفسها لم يعد لأبو علي صبرٌ عليها. بات يفضّل أن يتجنّبها. اختفى ذلك الرجل النشيط الذي يجابه الشمس بوجهه الأبيض في أيام الحرّ الشديد. صار يختبئ منها في ظلّ الشجرة قرب تقاطع مسجد عائشة بكار، نقطة وقوفه التي تحوّلت مع الوقت إلى جزءٍ من صورة المكان.

لم يعد حادّاً ولا مستفزّاً على عادته مع الزبائن، الذين يشكّل أهل المنطقة غالبيتهم. هزمه العمر. يتغاضى اليوم عن التعليقات التي لطالما امتلك سرعة بديهة لئيمة في الرد على من يرميها على مسمعه من "المتذاكين". وهؤلاء، أي مدّعو الذكاء، كثر بين زبائنه. ويبدو أنهم لم يتعبوا من مضايقة الرجل حتى بعد أن صار عجوزاً. هم ناس عاديون وصعاليك ممن يحبّون التسلي بالآخرين، لا سيما من يظنّونهم أضعف منهم أو أقلّ قدرة.

يعلم الجميع أنه لم يكن ليسكت عن هذه التعليقات في أيام أخرى، مثلما يفعل اليوم. كان سيردّ الصاع صاعين أو أكثر على أي تعليق يعنيه، أو على أية ملاحظة تنتقد شراب الجلّاب مع الثلج المبروش والمكسّرات الذي يقدّمه خلال الصيف.

في شهر رمضان، يُضيف أبو علي إلى عربته وعاءين نحاسيين لشراب التمر الهندي والسوس. صحون القطايف بالقشطة مع زينتها الجذابة من مربى زهر الليمون والفستق الحلبي اختفت قبل زمنٍ عن العربة. صارت لزبائن المحلّات لا لزبائن العربات في الشوارع. مزاج الناس يتغيّر، وقد يؤثّر على مهنٍ صغيرة مثل مهنة "ملك الجلّاب". اضطرّ مثلاً إلى التخلّي عن الأكواب الزجاجية بعدما صارت الناس "صحّية" وتطلب الشراب بأكواب من البلاستيك.

قضى أبو علي عمره يراقب الناس ويستمع إلى أحاديثهم ويختبر أمزجتهم. عاش أيام السلم وأيام الحرب من دون أن يرفع صورةً لزعيم. وسجّل في ذاكرته التي تخونه اليوم وجوهاً وأحداثاً كثيرة. ذاكرته أرشيف للمنطقة، فقد وصل إليها وصار ركناً منها قبل كثيرين.

لم يرَ نفسه إلا ملكاً على عرش المشروبات التي يقدّمها، ولو أن أحداً لم يعترف بمنزلته هذه. هو ببساطة أبو علي. كان كذلك وهكذا سيبقى. وإن بحثتَ عنه ستجده في مكانه مرتدياً زيّه البرتقالي، عند تقاطع مسجد عائشة بكار، وجالساً في ظلّ الشجرة إيّاها يتفرّج على العابرين وينتظر اقترابهم من عربته ليرووا ظمأهم من مشروباته. فيناكفونه ويردّ عليهم إذا ما تمكّن من ذلك، بما بقي له من روح.


المساهمون