على الرغم من الأهمية القصوى للملصق السينمائي، تجارياً ودعائياً وترويجياً، إلا أن حضوره في المكتبة السينمائية العربية قليلٌ، وحفظه من الضياع معقودٌ على جهودٍ فردية يقوم بها مهتمّون أو مهووسون به. بالإضافة إلى ذلك، فإن النقدين السينمائي والفني لا يهتمّان بالملصق، ولا يتابعان تطوّراته وتحوّلاته، ولا يشتغلان على ارتباطه بالفيلم، ومدى قدرته على أن يكون "فنّاً" قائماً بذاته، إلى جانب دوره الترويجي ـ الدعائيّ.
بدايات
يُرافق الملصق السينمائيّ صناعة الفيلم في العالم، علماً أن العرب لم يخرجوا على هذا التقليد، المتحوّل شيئاً فشيئاً إلى صناعة مستقلّة. الجانب الفني فيه منذورٌ لهدفٍ أول وأساسي: الترويج للفيلم عبر اختزال حكايته وأبرز ممثليه والعاملين فيه، بصورة أو كلمة أو تعبير. الشكل المعتَمَد محصورٌ بأولوية تقديم أكبر عدد ممكن من المعلومات في أقلّ قدرٍ ممكن من الصُوَر والكلمات.
لا يُعرَف تاريخٌ محدّدٌ لولادة الملصق السينمائيّ في العالم. هناك من يعتبر جول شيري (1836 ـ 1932)، العامل في الطباعة الحجرية والمهتمّ بالفن الحديث، "أول فنان له فضل ابتكار الملصق الفني"، أو (كما يصفه آخرون) "المعلّم الشعبي لفنّ الملصق"، بإنجازه عملين اثنين في العام 1890: الأول لفيلم قصير بعنوان "عروض فنية"، والثاني من أجل البرنامج المشهور لـ"المسرح البصريّ لمتحف غريفان"، المعنون بـ"تمثيليات صامتة مضيئة". وهناك من يقول إن مارسيل أوزول (1862 ـ 1942) أوّل من وقّع اسمه على صناعة ملصق، خاصّ بفيلم "البستانيّ والولد العفريت الصغير" (1895) للوي لوميير.
تأريخ الملصق السينمائي العربي غير معروف تماماً. الكتاب الأجدّ في المجال هذا، الصادر حديثاً في بيروت بعنوان "هذا المساء، السينما في لبنان (1929 ـ 1979)" للّبناني عبودي أبوجودة ("الفرات للنشر"، بيروت، الطبعة الأولى، 2015)، لا يُقدِّم تأريخاً للملصق، لأنه "رحلة مُصوَّرة مع الأفلام السينمائية التي صُوِّرَت في لبنان" (ص. 9). أما زينة معاصري (أستاذة جامعية، لها كتاب بعنوان "ملامح النزاع: الملصقات السياسية للحرب الأهلية اللبنانية"، صادر عن "الفرات للنشر" في العام 2010)، فتقول إن أبوجودة يُقدّم في الكتاب "تاريخاً للسينما في لبنان من خلال إعلاناتها الترويجية المطبوعة"، مضيفةً أن العرض التاريخي هذا "يُشكِّل فرصة لتحديد موقع هذه المطبوعات على نحو ملائم ضمن التاريخ العالمي للتصميم الغرافيكي" (ص. 17).
التقديم الذي تضعه معاصري للكتاب باللغة الإنكليزية (منشور بترجمة عربية)، بعنوان "حياة الفيلم في مادّته المطبوعة"، يرسم ملامح أساسية تتعلّق بثنائية التأريخ وفنّ الغرافيك. الكتاب، ذو الطباعة الأنيقة التي تليق بفنّ الملصق وجمالياته المختلفة، يتابع مسار السينما في لبنان، من خلال مطبوعات ترويجية كهذه. مقدّمة أبوجودة متعلّقة بالأفلام وتاريخها. يعد المؤرشف بإصدار كتاب ثانٍ في الإطار نفسه، يتناول حكاية الجيل الجديد المولود في ثمانينيات القرن الـ20، إذ يرى في أفلام الجيل هذا "ولادة لسينما لبنانية جديدة" (ص. 14).
في الإطار نفسه، لا يكتفي المصري سامح فتحي، في كتابه "فن الأفيش في السينما المصرية" (لا ذكر لدار نشر، الطبعة الأولى، 2014)، هو الثاني له بعد "الأفيش الذهبيّ في السينما المصرية" (2009)، بسرد وقائع الملصقات المتنوّعة للأفلام المصرية بنشر صُوَرٍ لها، إذ يضع مقالة طويلة في المقدّمة، تتناول بدايات الصناعة هذه في العالم ومصر، وتحاول أن تثير ملاحظات مختلفة، فنية وترويجية وسينمائية، عن الملصق وارتباطه بصناعة السينما في مصر.
وعلى الرغم من الحاجة الماسّة إلى أفضل طباعة ممكنة، لتبيان المعالم المختلفة الخاصّة
بملصقات سينمائية قديمة، يعود إنتاجها في مصر إلى العام 1933، كما يقول سامح فتحي؛ إلاّ أن "فنّ الأفيش في السينما المصرية" يمتلك خصوصية طباعية تتلاءم، إلى حدّ كبير، ومتطلّبات الملصق الفني، وإنْ يتمّ هذا على نقيض كتاب عبّودي أبوجودة، الذي يمتلك جماليات طباعية متفوّقة على الكتاب المصري. وهذا، إنْ يبقى تعليقاً خاصّاً بالشكل، يجد مشتركاً بين الكتابين، يتمثّل بأهمية الجهود المبذولة لأرشفة الملصق وتاريخه وحكايته، ولحماية الملصقات، وإنْ عبر صُوَرٍ عنها منشورة في الكتابين، من الضياع والإهمال، علماً أن أبوجودة وفتحي يمتلكان الملصقات الأساسية أو نسخاً عنها في أرشيفهما الخاصّين بهما.
عاملٌ فرديٌّ
الجهود المبذولة أولاً في البحث عن الملصقات، وثانياً في جمعها والاعتناء بها وحمايتها من الضياع، تجد ترجمة عملية لها في إصدار كتابين، يتولّى "العامل الفرديّ" مهمّة إنجازهما في أحسن صورة ممكنة. فجهدٌ كهذا يُفترض بمؤسّسات ثقافية أو فنية الاهتمام به، تمويلاً للأرشفة والنشر والطباعة والتوزيع؛ إلا أن ما يفعله عبّودي أبوجودة وسامح فتحي يبقى نتاج شغف ذاتيّ، وحماسةٍ شخصية، واهتمامٍ ثقافي وفكريّ، يُضاف إليها كلّها نوعٌ من مسؤولية أخلاقية إزاء أرشيف ضخمٍ كهذا، يعكس شيئاً من تاريخ السينما في البلدين، ومن آليات صناعة الملصق وتطوّرها.
وإذْ يكتفي أبوجودة بنصف قرن فقط في أرشفته الملصقات، فإن فتحي يتجوّل في كتابه هذا بين العامين 1933 و2012. المفارقة الأولى تكمن في الاختلاف الجوهريّ في صناعة السينما بين البلدين، وبين الفترتين المختارتين. غزارة الإنتاج وامتلاك مصر أدوات الصناعة السينمائية منذ ولادتها نهاية القرن الـ19 (أول عرض سينمائي يتمّ في 1896) أو بداية القرن التالي له (تصوير أول فيلم تسجيلي صامت في العام 1907)، يُقابلها قلّة عدد الأفلام اللبنانية المنجزة بين التاريخ الرسمي لولادة الفنّ "اللبناني" (1929) والعام 1979، قياساً إلى النتاج المصري في الفترة نفسها على الأقلّ، او في بدايات الصناعة الفيلمية اللبنانية تحديداً، قبل خمسينيات القرن الـ20 وستينياته؛ وعدم قدرة لبنان، لغاية اليوم، على تحويل الإنتاجات الفردية إلى صناعة متكاملة، مع أنه يشهد، في فترات عديدة (خصوصاً في خمسينيات القرن الـ20 وستينياته، وصولاً إلى منتصف سبعينياته، أي عشية اندلاع الحرب الأهلية فيه)، إمكانيات أساسية تتيح تأسيس صناعة متكاملة، كالاستديوهات ومعامل التحميض والتوليف والتصوير.
هذا نقاشٌ آخر. لكن التوقّف عنده قليلاً يهدف إلى القول إن تأثيراتٍ أجنبية لجاليات أوروبية في القاهرة والإسكندرية على صناعة السينما، تمتدّ إلى صناعة الملصق أيضاً. فسامح فتحي يُخصّص بـ"الحقبة اليونانية وأثرها في صناعة الأفيش المصري" مثلاً صفحة كاملة (ص. 11) لتبيان بعض أبرز التأثيرات هذه، إذ يعتبر أن الفضل في صناعته يرجع أساساً إلى اليونانيين الذين يحملون تلك الصناعة من بلدهم، و"لهم علاقة قوية بفنّي التصوير الفوتوغرافي والرسم". مع ذلك، فإن الملصقات المنشورة في الكتابين لا تتيح للنقاش المتعلّق بطبيعة الصناعة
الفيلمية بين البلدين مجالاً للتوسّع. فالملصقات، وإنْ تمنح المهتمّ فرصة الاطّلاع على مسار فني تاريخي للشكل والمضمون الخاصّين بكل واحد منها، تعكس اختلافاً في تناول كلّ فيلمٍ، وإبراز أهمّ ما فيه من معطيات تجذب المتلقّي، وتغريه للتوجّه إلى الصالة لمشاهدته.
ملاحظات
الاختلاف الحاصل بين الكتابين لن يكون محصوراً في الشكل والطباعة، لأنه حاضرٌ في كيفية تناول كلّ ملصق على حدة. اللبناني عبّودي أبوجودة يريد من نشر الملصق تحديدات تتوزّع على معلومات عن الفيلم وأخرى عن الملصق، بينما يكتفي سامح فتحي ـ بالإضافة إلى الدراسة المطوّلة ـ بنشر صُوَر عن الملصقات، وأحجامها. الأحجام موجودة في "هذا المساء" أيضاً، إلى جانب ما يُعرف بـ"اللائحة التقنية" للفيلم، مُضيفاً إليها نسخاً من مقالات (بالعربية والفرنسية) منشورة في صحف ومجلات، وصُوَر من الأفلام أيضاً. هذا غير موجود في "فنّ الأفيش في السينما المصرية"، الذي يتضمّن أكثر من مقالة لفتحي عن بعض أبرز صانعي الملصقات، كجسور (محسن مظهر) ومحمد عبد العزيز (فنان البراويز في الأفيش) واليونانيّ فاسيليو (عمدة فناني الأفيش اليونانيين) ووهيب فهمي وأنور علي ومرتضى أنيس وناجي شاكر (الفن التشكيلي في الأفيش) وسارة عبد المنعم (الأفيش الحديث).
بالإضافة إلى هذا، يضع سامح فتحي لائحة كاملة بالأفلام المختارة في الكتاب، ولأسماء رسّامي ملصقاتها، إلى جانب الأعوام المُنتجة فيها. بهذا، يتيح للملصق في كل صفحة اتّساع المساحة له، مع إعادة وضع اسم الفيلم في أسفل الصفحة تحت الملصق، وتاريخ إنتاج الفيلم، وحجم الملصق. أما اهتمام عبّودي أبوجودة بالملصق، فلن يرتبط بالنسخة الأولى له فقط، إذ من المعروف أن لكل فيلم أكثر من نسخة واحدة للملصق، وأن الملصق المطبوع في بيروت مثلاً لن يكون، بالضرورة، هو نفسه المطبوع في القاهرة.
مسار تاريخي
التبويب المعتمَد في "هذا المساء" يتيح للقارئ التنبّه إلى تصنيفات مُساعِدة على القراءة والمُشاهدة والتمعّن في أحوال الملصق: فبعد فصول مخصّصة بأعوام الإنتاج وهي 3 (1929 ـ 1959؛ و1960 ـ 1969؛ و1970 ـ 1979)، هناك 3 فصول أخرى متعلّقة بأفلام مُصوّرة في لبنان، وأفلام تركية مدبلجة في لبنان، وأفلام لبنانية معروضة في باريس. هذا التبويب مريح للاطّلاع، ومفيد لتأريخ مفصّل يضع الملصق والفيلم في المسار التاريخي الصحيح، خصوصاً أن عبودي أبوجودة ينتبه إلى كَمٍّ من الأخطاء الواردة في مراجع ومنشورات وكتب، متعلّقة بتواريخ الإنتاج والعروض، وبأسماء عاملين، إلخ. ولا ينسى إعلانات شركات توزيع الأفلام، وهذا ما يُعتبر بمثابة إضافة نوعية تساهم في مزيدٍ من الوعي الثقافي والجمالي لصناعة الملصق، من خلال آلية عمل مسوؤلي التوزيع السينمائيّ أيضاً. لا شكّ في أن الكتابين محتاجان ليس فقط إلى قراءة واطّلاع وتمعّن في أصول مهنة تصنيع الملصقات وتطوّره الفني والجمالي، بل إلى مزيدٍ من النقاش حول فنّيتها وجمالياتها ومدى استفادتها من التطوّر التكنولوجي الراهن، لتبيان مدى استفادة الصناعة من التطوّر.
(كاتب لبناني)
بدايات
يُرافق الملصق السينمائيّ صناعة الفيلم في العالم، علماً أن العرب لم يخرجوا على هذا التقليد، المتحوّل شيئاً فشيئاً إلى صناعة مستقلّة. الجانب الفني فيه منذورٌ لهدفٍ أول وأساسي: الترويج للفيلم عبر اختزال حكايته وأبرز ممثليه والعاملين فيه، بصورة أو كلمة أو تعبير. الشكل المعتَمَد محصورٌ بأولوية تقديم أكبر عدد ممكن من المعلومات في أقلّ قدرٍ ممكن من الصُوَر والكلمات.
لا يُعرَف تاريخٌ محدّدٌ لولادة الملصق السينمائيّ في العالم. هناك من يعتبر جول شيري (1836 ـ 1932)، العامل في الطباعة الحجرية والمهتمّ بالفن الحديث، "أول فنان له فضل ابتكار الملصق الفني"، أو (كما يصفه آخرون) "المعلّم الشعبي لفنّ الملصق"، بإنجازه عملين اثنين في العام 1890: الأول لفيلم قصير بعنوان "عروض فنية"، والثاني من أجل البرنامج المشهور لـ"المسرح البصريّ لمتحف غريفان"، المعنون بـ"تمثيليات صامتة مضيئة". وهناك من يقول إن مارسيل أوزول (1862 ـ 1942) أوّل من وقّع اسمه على صناعة ملصق، خاصّ بفيلم "البستانيّ والولد العفريت الصغير" (1895) للوي لوميير.
تأريخ الملصق السينمائي العربي غير معروف تماماً. الكتاب الأجدّ في المجال هذا، الصادر حديثاً في بيروت بعنوان "هذا المساء، السينما في لبنان (1929 ـ 1979)" للّبناني عبودي أبوجودة ("الفرات للنشر"، بيروت، الطبعة الأولى، 2015)، لا يُقدِّم تأريخاً للملصق، لأنه "رحلة مُصوَّرة مع الأفلام السينمائية التي صُوِّرَت في لبنان" (ص. 9). أما زينة معاصري (أستاذة جامعية، لها كتاب بعنوان "ملامح النزاع: الملصقات السياسية للحرب الأهلية اللبنانية"، صادر عن "الفرات للنشر" في العام 2010)، فتقول إن أبوجودة يُقدّم في الكتاب "تاريخاً للسينما في لبنان من خلال إعلاناتها الترويجية المطبوعة"، مضيفةً أن العرض التاريخي هذا "يُشكِّل فرصة لتحديد موقع هذه المطبوعات على نحو ملائم ضمن التاريخ العالمي للتصميم الغرافيكي" (ص. 17).
التقديم الذي تضعه معاصري للكتاب باللغة الإنكليزية (منشور بترجمة عربية)، بعنوان "حياة الفيلم في مادّته المطبوعة"، يرسم ملامح أساسية تتعلّق بثنائية التأريخ وفنّ الغرافيك. الكتاب، ذو الطباعة الأنيقة التي تليق بفنّ الملصق وجمالياته المختلفة، يتابع مسار السينما في لبنان، من خلال مطبوعات ترويجية كهذه. مقدّمة أبوجودة متعلّقة بالأفلام وتاريخها. يعد المؤرشف بإصدار كتاب ثانٍ في الإطار نفسه، يتناول حكاية الجيل الجديد المولود في ثمانينيات القرن الـ20، إذ يرى في أفلام الجيل هذا "ولادة لسينما لبنانية جديدة" (ص. 14).
في الإطار نفسه، لا يكتفي المصري سامح فتحي، في كتابه "فن الأفيش في السينما المصرية" (لا ذكر لدار نشر، الطبعة الأولى، 2014)، هو الثاني له بعد "الأفيش الذهبيّ في السينما المصرية" (2009)، بسرد وقائع الملصقات المتنوّعة للأفلام المصرية بنشر صُوَرٍ لها، إذ يضع مقالة طويلة في المقدّمة، تتناول بدايات الصناعة هذه في العالم ومصر، وتحاول أن تثير ملاحظات مختلفة، فنية وترويجية وسينمائية، عن الملصق وارتباطه بصناعة السينما في مصر.
وعلى الرغم من الحاجة الماسّة إلى أفضل طباعة ممكنة، لتبيان المعالم المختلفة الخاصّة
عاملٌ فرديٌّ
الجهود المبذولة أولاً في البحث عن الملصقات، وثانياً في جمعها والاعتناء بها وحمايتها من الضياع، تجد ترجمة عملية لها في إصدار كتابين، يتولّى "العامل الفرديّ" مهمّة إنجازهما في أحسن صورة ممكنة. فجهدٌ كهذا يُفترض بمؤسّسات ثقافية أو فنية الاهتمام به، تمويلاً للأرشفة والنشر والطباعة والتوزيع؛ إلا أن ما يفعله عبّودي أبوجودة وسامح فتحي يبقى نتاج شغف ذاتيّ، وحماسةٍ شخصية، واهتمامٍ ثقافي وفكريّ، يُضاف إليها كلّها نوعٌ من مسؤولية أخلاقية إزاء أرشيف ضخمٍ كهذا، يعكس شيئاً من تاريخ السينما في البلدين، ومن آليات صناعة الملصق وتطوّرها.
وإذْ يكتفي أبوجودة بنصف قرن فقط في أرشفته الملصقات، فإن فتحي يتجوّل في كتابه هذا بين العامين 1933 و2012. المفارقة الأولى تكمن في الاختلاف الجوهريّ في صناعة السينما بين البلدين، وبين الفترتين المختارتين. غزارة الإنتاج وامتلاك مصر أدوات الصناعة السينمائية منذ ولادتها نهاية القرن الـ19 (أول عرض سينمائي يتمّ في 1896) أو بداية القرن التالي له (تصوير أول فيلم تسجيلي صامت في العام 1907)، يُقابلها قلّة عدد الأفلام اللبنانية المنجزة بين التاريخ الرسمي لولادة الفنّ "اللبناني" (1929) والعام 1979، قياساً إلى النتاج المصري في الفترة نفسها على الأقلّ، او في بدايات الصناعة الفيلمية اللبنانية تحديداً، قبل خمسينيات القرن الـ20 وستينياته؛ وعدم قدرة لبنان، لغاية اليوم، على تحويل الإنتاجات الفردية إلى صناعة متكاملة، مع أنه يشهد، في فترات عديدة (خصوصاً في خمسينيات القرن الـ20 وستينياته، وصولاً إلى منتصف سبعينياته، أي عشية اندلاع الحرب الأهلية فيه)، إمكانيات أساسية تتيح تأسيس صناعة متكاملة، كالاستديوهات ومعامل التحميض والتوليف والتصوير.
هذا نقاشٌ آخر. لكن التوقّف عنده قليلاً يهدف إلى القول إن تأثيراتٍ أجنبية لجاليات أوروبية في القاهرة والإسكندرية على صناعة السينما، تمتدّ إلى صناعة الملصق أيضاً. فسامح فتحي يُخصّص بـ"الحقبة اليونانية وأثرها في صناعة الأفيش المصري" مثلاً صفحة كاملة (ص. 11) لتبيان بعض أبرز التأثيرات هذه، إذ يعتبر أن الفضل في صناعته يرجع أساساً إلى اليونانيين الذين يحملون تلك الصناعة من بلدهم، و"لهم علاقة قوية بفنّي التصوير الفوتوغرافي والرسم". مع ذلك، فإن الملصقات المنشورة في الكتابين لا تتيح للنقاش المتعلّق بطبيعة الصناعة
ملاحظات
الاختلاف الحاصل بين الكتابين لن يكون محصوراً في الشكل والطباعة، لأنه حاضرٌ في كيفية تناول كلّ ملصق على حدة. اللبناني عبّودي أبوجودة يريد من نشر الملصق تحديدات تتوزّع على معلومات عن الفيلم وأخرى عن الملصق، بينما يكتفي سامح فتحي ـ بالإضافة إلى الدراسة المطوّلة ـ بنشر صُوَر عن الملصقات، وأحجامها. الأحجام موجودة في "هذا المساء" أيضاً، إلى جانب ما يُعرف بـ"اللائحة التقنية" للفيلم، مُضيفاً إليها نسخاً من مقالات (بالعربية والفرنسية) منشورة في صحف ومجلات، وصُوَر من الأفلام أيضاً. هذا غير موجود في "فنّ الأفيش في السينما المصرية"، الذي يتضمّن أكثر من مقالة لفتحي عن بعض أبرز صانعي الملصقات، كجسور (محسن مظهر) ومحمد عبد العزيز (فنان البراويز في الأفيش) واليونانيّ فاسيليو (عمدة فناني الأفيش اليونانيين) ووهيب فهمي وأنور علي ومرتضى أنيس وناجي شاكر (الفن التشكيلي في الأفيش) وسارة عبد المنعم (الأفيش الحديث).
بالإضافة إلى هذا، يضع سامح فتحي لائحة كاملة بالأفلام المختارة في الكتاب، ولأسماء رسّامي ملصقاتها، إلى جانب الأعوام المُنتجة فيها. بهذا، يتيح للملصق في كل صفحة اتّساع المساحة له، مع إعادة وضع اسم الفيلم في أسفل الصفحة تحت الملصق، وتاريخ إنتاج الفيلم، وحجم الملصق. أما اهتمام عبّودي أبوجودة بالملصق، فلن يرتبط بالنسخة الأولى له فقط، إذ من المعروف أن لكل فيلم أكثر من نسخة واحدة للملصق، وأن الملصق المطبوع في بيروت مثلاً لن يكون، بالضرورة، هو نفسه المطبوع في القاهرة.
مسار تاريخي
التبويب المعتمَد في "هذا المساء" يتيح للقارئ التنبّه إلى تصنيفات مُساعِدة على القراءة والمُشاهدة والتمعّن في أحوال الملصق: فبعد فصول مخصّصة بأعوام الإنتاج وهي 3 (1929 ـ 1959؛ و1960 ـ 1969؛ و1970 ـ 1979)، هناك 3 فصول أخرى متعلّقة بأفلام مُصوّرة في لبنان، وأفلام تركية مدبلجة في لبنان، وأفلام لبنانية معروضة في باريس. هذا التبويب مريح للاطّلاع، ومفيد لتأريخ مفصّل يضع الملصق والفيلم في المسار التاريخي الصحيح، خصوصاً أن عبودي أبوجودة ينتبه إلى كَمٍّ من الأخطاء الواردة في مراجع ومنشورات وكتب، متعلّقة بتواريخ الإنتاج والعروض، وبأسماء عاملين، إلخ. ولا ينسى إعلانات شركات توزيع الأفلام، وهذا ما يُعتبر بمثابة إضافة نوعية تساهم في مزيدٍ من الوعي الثقافي والجمالي لصناعة الملصق، من خلال آلية عمل مسوؤلي التوزيع السينمائيّ أيضاً. لا شكّ في أن الكتابين محتاجان ليس فقط إلى قراءة واطّلاع وتمعّن في أصول مهنة تصنيع الملصقات وتطوّره الفني والجمالي، بل إلى مزيدٍ من النقاش حول فنّيتها وجمالياتها ومدى استفادتها من التطوّر التكنولوجي الراهن، لتبيان مدى استفادة الصناعة من التطوّر.
(كاتب لبناني)