المكنسة والرئيس

07 يونيو 2016

مرّ الرئيس.. وظل يردد: الشارع لم يعد نظيفا (Getty)

+ الخط -
يمتشق مكنسته الطويلة كسلاح، ويسندها إلى كتفه متأهباً، ويراقب ممرات المصح العقلي، حيث يقيم منذ شهور، ثم ينقضّ على الممر كنساً وتنظيفاً، ثم يعيد الكرّة. لكن، ما أن ينظر إلى الممر الذي قتله كنساً وتنظيفاً، حتى يضرب جبهته بيده، ويصيح: "الشارع لم يعد نظيفاً".
تلك هي حال صاحبنا، منذ أن اقتادوه من الشارع الذي ظل يكنسه طوال سحابة عمره، بحكم عمله الذي جعله واحداً من ألمع عمال النظافة في المدينة، إذ كان الشارع الذي يتولى تنظيفه الأنظف بين الشوارع كلها، بشهادة زملائه ومديريه، والمشرفين على عمله، ما جعله يحظى بأوسمةٍ عديدة، من قبيل "الكنّاس الأول" و"ذئب الشوارع".
عموماً، كان كل شيء في حياة "صاحبنا" يسير على ما يرام، إلى أن حدث ذلك الانقلاب الذي قلب حياته رأساً على "مكنسة"، ففي صبيحة أحد الأيام، استدعى المدير "صاحبنا" على عجل، ليبلغه بأن موكب الرئيس سيمر غداً من شارعه، وبأن هذا القرار جاء من "أعلى المستويات" في الدولة، بحكم نظافة الشارع أولاً، وحفاظاً على عيني الزعيم من أي "تلوث بصري"، بل، وأزيد من ذلك، قيل له إن الرئيس ربما يفكر بسلوك هذا الشارع، من الآن فصاعداً، في جميع تنقلاته المقبلة، إذا استحسن الشارع بالطبع.
والحال أنه، طوال سنوات وظيفته التي التهمت عمره بأكمله في كنس الشوارع، لم يخضع "صاحبنا" لمثل هذه الحال من التلبّك والارتباك والأرق، فقد كان ينجز مهمته اليومية إلى حد الإغماض من كثرة التكرار، لكنه الآن يشعر وكأنه لم يكنس شارعاً في حياته، فمنذ أن استدعاه المدير، غاب عن كل شيء حوله، وأصيب بما يشبه الهذيان، وما كان منه إلا أن غادر مسرعاً إلى شارعه، بعد أن هاتف زوجته، وأبلغها بأنه لن يعود الليلة إلى المنزل، نظراً "لظروف العمل"، ثم امتشق مكنسته، واتجه إلى شارعه بصعوبةٍ، بعد أن سأل عنه كل من صادفه، إذ اختلطت الشوارع في رأسه تماماً.
المهم، وبعد طول عناء، وصل صاحبنا إلى "شارعه"، وكم كانت دهشته بالغةً، حين شعر بغربةٍ عن الشارع، وكأنه يشاهده أول مرة في حياته، على الرغم من أنه "ابن هذا الشارع"، كما كان يصف نفسه لأقرانه ومعارفه، غير أنه سرعان ما تجاوز هذه الدهشة، لأن المهمة "الجليلة" بانتظاره، وهي لا تحتمل التأخير البتة، فامتشق مكنسته، وراح يكنس الشارع، مرة تلو أخرى، وفي كل مرةٍ يُخيل إليه أن ثمّة "عقب سيجارة" يلوح من بعيد، فيضطر إلى الكنس ثانية.
وبعد أن أنهى مهمته، وارتاح لنظافة الشارع، لم يهدأ أيضاً، بل أسند المكنسة إلى كتفه، ووقف وقفةً عسكرية، وراح يجوب الشارع ذهاباً وإياباً طول الليل، ليطمئن على نظافته من أي ملوثات "بصرية" قد تصدم الرئيس.
في الصباح، كان كل شيء يوحي بالطمأنينة، فالشارع يكاد ينفجر بياضاً ونظافةً، و"صاحبنا" حارس أمين بمكنسته، وما هي إلا بضع ساعات، حتى سمع "صاحبنا" دوي صفارات الإنذار المصاحبة لموكب الرئيس، ورأى الموكب يمر من أمامه مسرعاً، ولا يدري كيف رأى الرئيس يبتسم له من بعيد. ثم جاء القرار واضحاً، ومفاده بأن الرئيس قرّر سلوك هذا الشارع، في كل تنقلاته، بل وقرّر أن يطلق على الشارع مسمى "شارع الرئيس".
وحين جاء الجميع لتهنئة "صاحبنا" بهذا التشريف الذي حظي به، وجدوه مكبّاً على كنس الشارع، ذهاباً وإياباً، والعرق يتصبب من جسده كله، وعلى الرغم من أنهم نادوا عليه مرات عدة، بل وحاولوا سحبه جانباً إلى رصيف الشارع الذي تعطلت حركة المرور عليه تماماً جرّاء التكنيس المتواصل له، إلا أن "صاحبنا" لم يكن يسمع شيئاً، بل كان شارد الذهن تماماً، وكل ما كان يردّده: "الشارع لم يعد نظيفاً".
دلالات
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.