11 نوفمبر 2023
المفهوم المقلوب للاقتصاد الخليجي
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
قرأت، قبل أيام، تعليقاً لمعلق سياسي سعودي "معتدل" (لعله المعتدل الوحيد الناطق من بين السعوديين هذه الأيام) ينتقد فيها ما سمّاه تراجع الحكومة عن فرض رسومٍ على العمالة الوافدة. ووصف القرار بأنه انتكاسةٌ لتوطين العمالة والاقتصاد. ويغرّد هذا الكاتب في إطار كورس يوجّه اللوم إلى العمالة الأجنبية في السعودية في أزمة البطالة التي تواجهها البلاد. وفي بعض التعليقات على هذا الزعم، تباينت الآراء بين من أيّد هذا الفهم "الشعبوي" لأزمات الاقتصاد ومن سفّهه. في الجانب الأول، هناك من رأى أن "الوافدين" قد أخذوا ما يكفي من "خير البلاد"، وقد آن الأوان ليفسحوا المجال لأبناء البلاد، حتى يأخذوا نصيبهم، خصوصا أن أعداد السعوديين تضاعفت، بينما تراجعت عائدات النفط. في الجانب الثاني، هناك من أكّد أن الوظائف التي يخليها الأجانب في معظمها مهن محتقرة لدى السعوديين. إضافة إلى ذلك، فإن فرض رسوم إقامة عالية على أسر العاملين الأجانب تنعكس سلباً على الاقتصاد، لأن تهجيرهم سيؤدي إلى انكماش اقتصادي، ينعكس سلباً على الوظائف.
ولا جدال في أن هناك أزمة بطالة متفاقمة في السعودية، لكن أحد أسبابها قوانين العمل، وليس وجود العمالة الأجنبية، فالعمالة المهاجرة في العادة تدعم الاقتصاد وتعزّز حيويته. ولعل أبرز نموذج هو الولايات المتحدة التي بلغ عدد المهاجرين المقيمين فيها في عام 2016 قرابة 44 مليونا، أو ما يعادل 13.5% من عدد السكان. وهناك إجماعٌ على أن المهاجرين يمثلون عماد نهضة أميركا الاقتصادية، خصوصا في القطاعات الحيوية، مثل تقنيات الاتصال
وصناعات وادي السيليكون. وليست أميركا وكندا ودول مثل أستراليا وحدها التي تعتمد على الهجرة في بناء نهضتها، حيث إن دولاً أوروبية عدة، من أبرزها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا وسويسرا، تعتمد اعتماداً كبيراً على المهاجرين في اقتصادها وتوازنها السكاني. وبحسب عدد من الإحصائيات، فإن مستوى النمو السكاني الأوروبي الذي يزيد على 2% سنوياً كان يمكن أن يتحوّل إلى انخفاض 1% لولا المهاجرون. وتصل نسبة المهاجرين إلى قرابة الربع في سويسرا، و21% في كندا. وفي بريطانيا وفرنسا، ساهمت موجات الهجرة في الخمسينات في إعادة بناء ما دمّرته الحرب. وفي مطلع السبعينات، ساهمت الهجرة القسرية لعشرات الآلاف من الآسيويين من أوغندا في إعادة الحياة إلى عدد من مدن وسط إنكلترا التي كانت على وشك أن تصبح أطلالاً بعد انهيار الصناعات التقليدية، خصوصا صناعة النسيج. ومن أبرز هذه المدن برادفورد وليستر، حيث أصبحت الأخيرة أول مدينة بريطانية تقطنها غالبية من المهاجرين.
ويعود هذا الأثر الإيجابي للهجرة إلى معادلةٍ بسيطة ومنطقية، هي أن المساهمة الاقتصادية لأي عامل لابد أن تكون بالضرورة أعلى من الأجر الذي يتقاضاه. وحتى لو صرفنا النظر عن النظرية الماركسية التقليدية التي ترى أن العمل هو أساس كل قيمة، فإن لمساهمة العمالة المهاجرة قيمة إضافية، كون معظم المهاجرين يعملون، في الغالب، ساعات أكثر، وبأجور أقل، وهم يسعون إلى إثبات وجودهم وتثبيته في مهجرهم. يحدث الأمر نفسه في السعودية، مع فرق، أن الأجور المتدنيّة والساعات الكثيرة هنا مفروضة، وليست اختيارية، وهنا مربط الفرس، ذلك أن التفرقة القانونية بين المهاجر والمواطن تخلق تشويهاً في السوق لغير صالح المواطن، فإذا كان في وسع صاحب العمل توظيف الأجانب بأجرٍ يقلّ بأضعاف عن أجر المواطن، مع الاستفادة من جهدهم المضاعف، والقدرة على التخلص منهم بسهولة، إذا لم يكن أداؤهم مُرضياً، فإن هذا الترتيب لا يجعله متحمّساً لتوظيف من يكلفه أكثر، ويعمل أقلّ ويصعب التخلص منه. وحل هذه المشكلة يكون أولاً بإنهاء التفرقة المفروضة قانوناً في الأجر والحقوق، وترك الأمر لقانون السوق، حتى تزول التشوّهات. وفي المقابل، يعزّز فرض الأتاوات على الأجانب التشوّهات، لأنه يخفض أجور الأجانب فعلياً، لصالح الدولة التي تحوّل هذه الضرائب لدعم أجور المواطن، ما يعزّز التمييز، ويزيد تشوهات السوق، بصورة غير مباشرة.
ويزداد الأمر سوءاً بالتسييس المبالغ فيه للاقتصاد، كما رأينا من الهجمة على كبار رجال الأعمال وابتزازهم، وتحويل المناصب الاقتصادية المهمة إلى محاسيب سياسيين، يفتقدون المهنية، ولا يجرؤون على مصارحة الحاكم بما فيه مصلحته، ما يوجِد بيئةً غير آمنة للاستثمار. ويندرج في هذا تسييس الإعلام، والغوغائية المصطنعة، ونشر الخوف والإرهاب، واستهداف الناشطين السلميين وتكميم الأفواه، وكلها توجّهاتٌ تشيع حالةً من الذعر وعدم الأمان، ما لا يشجّع الاستثمار والنشاط الاقتصادي الحر، خصوصا في ظل وضعٍ يعاقب الناجحين اقتصادياً باستضافةٍ قسريةٍ في فنادق فاخرة، بتكلفةٍ تقدر بمئات الملايين في اليوم الواحد. كل هذا يجعل الأمن والسلامة في عدم إظهار الثروة، وعدم السعي إلى كسبها، لأنها ستصبح وبالاً على صاحبها.
إذن، ليست المشكلة في العمالة الوافدة التي لا تأتي إلى البلاد بالقفز فوق الأسوار، أو التسلّل،
وإنما بتأشيراتٍ تمنحها الدولة، وتجدّد بإرادتها. فلماذا كل هذه الضجة، إذن، وتوجيه التهم؟ إن في وسع الدولة إيقاف كل التأشيرات، والاعتماد على سوق العمل المحلي وحده، كما ينصح صاحبنا. ولو فعلت، لانهار الاقتصاد بكامله بين عشيةٍ وضحاها، وتوقف دولاب العمل. وقد أكدت وكالة بلومبيرغ هذا الأسبوع تباطؤ الحركة التجارية، ووقوع خسائر كبيرة في قطاعات التجارة والتشييد، بعد تزايد هجرة الأجانب من السعودية خلال العام الماضي، بسبب الرسوم الباهظة التي تفرض على المقيمين. وإذا كان غياب أقل من عشرة بالمائة من المهاجرين خلال عام (معظمهم من غير المنتجين من أسر العاملين) يتسبّب بهذا الأثر، فكيف الحال لو أن العاملين أنفسهم اضطرّوا للمغادرة بأعداد كبيرة بدون خطط واضحة.
لقد ظلت المملكة تدعو، منذ عقود، إلى "السعودة"، وتخلق حوافز سلبية ضد توظيف العمالة الأجنبية، لكن منطق الاقتصاد غلاب، حينما يتعلق الأمر بالاقتصاد، فما دام توظيف السعوديين غير مجدٍ اقتصادياً في مقابل توظيف الأجانب، فإن الأمر لن يسير إلا في اتجاهٍ واحد. وحتى في الدول المتقدّمة، مثل الولايات المتحدة، فإن التوظيف أصبح يتبع العمالة الرخيصة في مكانها، فيهاجر إليها بدل أن تهاجر إليه، كما نرى في تحوّل معظم الصناعات إلى الصين وكثير من دول شرق آسيا الأخرى، فالمشكلات الاقتصادية يلزمها حلول اقتصادية، لا دعوات غوغائية، تزيد الأمور سوءاً.
ولا جدال في أن هناك أزمة بطالة متفاقمة في السعودية، لكن أحد أسبابها قوانين العمل، وليس وجود العمالة الأجنبية، فالعمالة المهاجرة في العادة تدعم الاقتصاد وتعزّز حيويته. ولعل أبرز نموذج هو الولايات المتحدة التي بلغ عدد المهاجرين المقيمين فيها في عام 2016 قرابة 44 مليونا، أو ما يعادل 13.5% من عدد السكان. وهناك إجماعٌ على أن المهاجرين يمثلون عماد نهضة أميركا الاقتصادية، خصوصا في القطاعات الحيوية، مثل تقنيات الاتصال
ويعود هذا الأثر الإيجابي للهجرة إلى معادلةٍ بسيطة ومنطقية، هي أن المساهمة الاقتصادية لأي عامل لابد أن تكون بالضرورة أعلى من الأجر الذي يتقاضاه. وحتى لو صرفنا النظر عن النظرية الماركسية التقليدية التي ترى أن العمل هو أساس كل قيمة، فإن لمساهمة العمالة المهاجرة قيمة إضافية، كون معظم المهاجرين يعملون، في الغالب، ساعات أكثر، وبأجور أقل، وهم يسعون إلى إثبات وجودهم وتثبيته في مهجرهم. يحدث الأمر نفسه في السعودية، مع فرق، أن الأجور المتدنيّة والساعات الكثيرة هنا مفروضة، وليست اختيارية، وهنا مربط الفرس، ذلك أن التفرقة القانونية بين المهاجر والمواطن تخلق تشويهاً في السوق لغير صالح المواطن، فإذا كان في وسع صاحب العمل توظيف الأجانب بأجرٍ يقلّ بأضعاف عن أجر المواطن، مع الاستفادة من جهدهم المضاعف، والقدرة على التخلص منهم بسهولة، إذا لم يكن أداؤهم مُرضياً، فإن هذا الترتيب لا يجعله متحمّساً لتوظيف من يكلفه أكثر، ويعمل أقلّ ويصعب التخلص منه. وحل هذه المشكلة يكون أولاً بإنهاء التفرقة المفروضة قانوناً في الأجر والحقوق، وترك الأمر لقانون السوق، حتى تزول التشوّهات. وفي المقابل، يعزّز فرض الأتاوات على الأجانب التشوّهات، لأنه يخفض أجور الأجانب فعلياً، لصالح الدولة التي تحوّل هذه الضرائب لدعم أجور المواطن، ما يعزّز التمييز، ويزيد تشوهات السوق، بصورة غير مباشرة.
ويزداد الأمر سوءاً بالتسييس المبالغ فيه للاقتصاد، كما رأينا من الهجمة على كبار رجال الأعمال وابتزازهم، وتحويل المناصب الاقتصادية المهمة إلى محاسيب سياسيين، يفتقدون المهنية، ولا يجرؤون على مصارحة الحاكم بما فيه مصلحته، ما يوجِد بيئةً غير آمنة للاستثمار. ويندرج في هذا تسييس الإعلام، والغوغائية المصطنعة، ونشر الخوف والإرهاب، واستهداف الناشطين السلميين وتكميم الأفواه، وكلها توجّهاتٌ تشيع حالةً من الذعر وعدم الأمان، ما لا يشجّع الاستثمار والنشاط الاقتصادي الحر، خصوصا في ظل وضعٍ يعاقب الناجحين اقتصادياً باستضافةٍ قسريةٍ في فنادق فاخرة، بتكلفةٍ تقدر بمئات الملايين في اليوم الواحد. كل هذا يجعل الأمن والسلامة في عدم إظهار الثروة، وعدم السعي إلى كسبها، لأنها ستصبح وبالاً على صاحبها.
إذن، ليست المشكلة في العمالة الوافدة التي لا تأتي إلى البلاد بالقفز فوق الأسوار، أو التسلّل،
لقد ظلت المملكة تدعو، منذ عقود، إلى "السعودة"، وتخلق حوافز سلبية ضد توظيف العمالة الأجنبية، لكن منطق الاقتصاد غلاب، حينما يتعلق الأمر بالاقتصاد، فما دام توظيف السعوديين غير مجدٍ اقتصادياً في مقابل توظيف الأجانب، فإن الأمر لن يسير إلا في اتجاهٍ واحد. وحتى في الدول المتقدّمة، مثل الولايات المتحدة، فإن التوظيف أصبح يتبع العمالة الرخيصة في مكانها، فيهاجر إليها بدل أن تهاجر إليه، كما نرى في تحوّل معظم الصناعات إلى الصين وكثير من دول شرق آسيا الأخرى، فالمشكلات الاقتصادية يلزمها حلول اقتصادية، لا دعوات غوغائية، تزيد الأمور سوءاً.
دلالات
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
عبد الوهاب الأفندي
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2023
14 أكتوبر 2023
09 سبتمبر 2023