أتى موعد 13 نيسان وحان موعد خطابات العيش المشترك وحب "الآخر". ففي موسم ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، تكثر تحركات المجتمع المدني ونشاطات الجمعيات الأهلية لإحياء الذاكرة حيناً والتأكيد على السلم الأهلي حيناً آخر. يقف رجال السياسة وأبناء الأحزاب على مسافة من هذه الشعارات، وينتظرون لحظة دعوتهم للكلام والتعبير عن مواقفهم. وهنا تفيض المشاعر الإنسانية والأحاسيس بالمسؤولية، فيتحدثون عن طيّ صفحة الحرب والاتعاظ من مآسيها. كما لو أنهم لم يشاركوا يوماً فيها مباشرة أو من خلال التبشير بميليشياتها التي انحّلت بعد إعلان السلم، فتهذّبت وتلمّعت بفعل استبدال محاور القتال بالمواقع الرسمية والتشريعية.
يشارك السياسيون في هذه التحركات المدنية. ينسون أنّ لهم كتلاً نيابية في البرلمان ووزراء في الحكومات. وأنّ هذا الثقل التمثيلي لم يتحرّك ولم يقدّم شيئاً جدياً ولا فعلياً لإقفال ملف الحرب. لا تزال الحرب تتربّع على عقول عشرات آلاف اللبنانيين من ذوي المفقودين (17 ألف مفقود ومخفي قسراً). ولا تزال تسيطر على قلوب آلاف العائلات المهجّرة (أكثر من 40 ألف مهجّر لم يعودوا جديّاً إلى قراهم ومناطقهم) جراء المذابح الجماعية والتنكيل بهم ووضع اليد على ممتلكاتهم ومصادرة حريّاتهم. يبقي ملفا المفقودين والمهجرين أبواب الحرب مشرّعة.
المفقودون منذ زمن
تتأرجح قضية المفقودين والمخفيين قسراً بين أيادي السياسيين منذ عام 1991. هم مفقودون لبنانيون على أيدي ميليشيات الحرب، وهم أيضاً المفقودون في السجون السورية. وبفعل تحوّل الميليشيات إلى كتل نيابية تدير الدولة ومفاصلها، لم يتقدّم هذا الملف خطوة إلى الأمام. انتهت الحرب وأصدرت الدولة قانون العفو عن تلك الجرائم، الذي لم يشمل ملف المفقودين. بقي هؤلاء حيث هم، ولم يتحرّك السياسيون للكشف عن حقائق قد تدينهم وأزلامهم. اكتفت السلطة اللبنانية بتشكيل لجنة أمنية وأخرى وزارية ــ قضائية لم تقدّما وتؤخرّا في هذا المجال. كما بقي ملف المفقودين في السجون السورية مقفلاً بين أعوام 1990 ــ 2005، لحين تشكيل اللجنة المشتركة اللبنانية ــ السورية التي أيضاً ظلّ عملها حبراً على ورق يقتصر على اجتماعات ولقاءات ثنائية.
شكّل الخوف من المحاسبة على جرائم الإخفاء والخطف عائقاً أمام النواب وقواهم السياسية، يعرقل كشف هذه الملفات. وبقي هاجس المحافظة على العلاقات السياسية "الطيّبة" مع النظام السوري عقبة أمام مبادرة أي طرف سياسي إلى تبنّي هذه القضية والمبادرة إلى نقاشها والمطالبة بها مع المسؤولين السوريين. وطوال عقدين من زمن السلم، لم ينجح ذوو المفقودين سوى بكسب إقرار قانون قاعدة بيانات وطنية للحمض النووي لأهالي الضحايا "تسمح لهم بالتعرف إلى هوية أي رفات قد يكتشف". أما البحث عن المقابر الجماعية، رغم توفّر معلومات "شعبية" عنها، فلم يتحرّك أيضاً بفعل العوامل السياسية. الأمر الذي يطيح أيضاً بقانون الحمض النووي ويجعل تطبيقه والاستفادة منه في يد "الصُدف" التي يمكن ان تكشف عن رفات هنا أو بقايا بشرية هناك.
ملف المهجرين
مرّ 24 عاماً من زمن السلم في لبنان ولم يعد القسم الأكبر من المهجرين إلى قراهم بعد. تكلّفت الدولة اللبنانية منذ عام 1990 إلى اليوم، ما يقارب ملياري دولار أميركي، لدفع تعويضات التهجير وإجراء مصالحات فولكلورية بين الناس. ولم تتخطّ نسب العودة 16.6 في المئة من المهجرين، على الرغم من رصد الأموال لذلك وإنشاء المؤسسات الرسمية لرعاية العودة. تم الإعلان عن قيام وزارة المهجرين وصندوق المهجرين عام 1993، وبعد عشرين عاماً من ذلك لا يزال الملف على حاله ينتظر التعويذة السحرية، سياسياً واقتصادياً. في مناطق التهجير، لم تعمل القوى السياسية على القيام بمصالحات سياسية فعلية. فمن شأن ذلك تقويض سلطة الطرف المهجِّر، أو "كسر" سلطته، وتضعه في موقع المتراجع أمام ناسه وجمهوره. في مصالحة جبل لبنان والشوف مثلاً، تحرّكت عجلة الحل أولاً عام 2001، مع زيارة البطريرك الماروني السابق نصر الله صفير. وعاد الملف ليُفتح مع زيارة رئيس تكتل التغيير والإصلاح، النائب ميشال عون، إلى المنطقة عام 2010. في المناسبتين، كانت الأجواء السياسية قد هدأت، أولت القوى السياسية هذا الملف الاهتمام اللازم. تم تفعيل عمل الوزارة ليعود الاهتمام العام ويتراجع إلى اجتماعات المكاتب بفعل اشتداد الأزمة السياسية، بين سقوط حكومة وتولّي أخرى الحكم. تتحكّم "الأجندة السياسية" بقضية المهجرين بحسب ما يقول معظم المهتمّين والمعنيين بهذا الملف. عدا عن كون إبقاء هذا الملف مفتوحاً يساهم في المحافظة على "مزراب" مالي تستفيد منه القوى السياسية المعنية، لدعم ناخبيها من جهة وإحكام قبضتها عليهم من جهة أخرى.
حتى إنّ التعويضات المالية التي حدّدتها الوزارة لا تشجّع المهجرين على العودة إلى منازلهم. فمبلغ ثلاثين مليون ليرة (عشرين ألف دولار) لا يعيد إعمار منزل تهدّم ولا يساهم في تحديد أرض تمّ التعدي عليها. كما أنه أيضاً يعجز عن ملء الثغرة النفسية والاجتماعية التي نجمت عن سنوات التهجير والتنكيل. ولم يعد خفياً على أحد من السياسيين أو النواب أنّ المصالحة يجب ان تتمّ أولاً وأخيراً بين الأهالي، بين من هجَّر ومن تهجَّر، لا خلال مآدب الطعام أو في اجتماع وزاري.
موسم استذكار الحرب الأهلية يتكرّر كل عام في 13 نيسان، فيعود الحديث عن مآسي الحرب وما خلّفته من دمار في الساحات ومن خوف وإرهاب في النفوس. تعود الذاكرة اللبنانية إلى تلك المآسي، بينما مأساة المفقودين والمهجرين لا تزال قائمة على ما هي بفعل السلطة السياسية والقيّمين عليها.