المفردة الأكثر غباء

12 مايو 2015
+ الخط -

الصندوق
قال لي:
عندما خلق الله الإنسان، وهبه صندوقين: الأوّل مملوء بالضحك، والآخر بالدمع.
وأوصاه: أنا لا أحبّ الفرحين.
الصندوقان بالحجم نفسه. لكن لا أحد يحب أن يفتح صندوق الدمع، وينظر إلى ما في جوفه، ولو من باب التجربة، والرغبة في الاكتشاف. هل تحبّ أنت ذلك؟ سألني، فنفيت سريعًا، بهزتين من رأسي.
الجميع يريدون أن يمدّوا أيديهم ويغرفوا ملء راحاتهم من الصندوق الضاحك. لا يسألون أنفسهم: ماذا سنفعل إذا ما نفد؟
وحين يتنبهون إلى ذلك، أخيرًا، يكونون قد فقدوا نصف أعمارهم على الأقلّ. لهذا تراهم - في ما بعد - يلعقون أصابعهم اليائسة، ثم يمدّون أيديهم إلى الصناديق المجاورة، تلك التي لا تزال إلى فمها، وينهلون منها، وهم ينظرون إليها مرغمين.


وهم
يحلم بأن يزرع أشجارًا كثيرة حول بيته، وأن يلقي تحية الصباح على جيرانه الطيبين واللؤماء.
إذا تحقّق له ذلك، بعد لأي، سيكون عليه أن ينتظر طويلًا، مرّة أخرى، حتى يسمع عظام الأشجار وهي تطقّ، معلنة بزوغ ثمارها السكرية، وأن يواصل انتظاره إلى أن يرى الثمار متهدّلة، مثل مثوبات على الصبر.
سوف يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، عندما لا يكون لديه وقت كاف. ولكن هذا ليس سيئًا، على أي حال، لأن بطء الثمرة سيحول دون اكتشاف الوهم.


فضائل

يريد الكاذب أن يقال إنه يكذب، لكنه لا يسرق. ويريد اللص أن يقال إنه يسرق، لكنه لا يخون. ويريد الخائن أن يقال إنه يخون، لكنه لا يقتل. ويريد القاتل أن يقال إنه يقتل، لكنه لا يخون ولا يسرق ولا يكذب.


النمل
من بين التشكيلات غير النهائية للسبعة وعشرين حرفًا، التي تتشكّل منها الأبجدية العربية، أشعر بازدراء تام نحو كلمتين محدّدتين. إنني أزدريهما بقدر ما تبعث في نفسي مشاعر الأسى كلمة مثل الحرية، أو العدالة.
والكلمتان البغيضتان إليّ هما: الولاء والانتماء.
عندما أصغي إلى أحدهم يتحدث عن الولاء، تلوح لي- لا أعرف لماذا- صورة النمل، كما لو كانت الكلمة مستوحاة من لغة هذه المخلوقات الدقيقة، المحكومة بعبودية أبدية.
من هناك، من هذا العالم الغامض، تنبثق الكلمة أمام عينيّ بأحرف كبيرة، وتلتصق، رغمًا عني، بلحم مخيلتي.
الانتماء؟ إنها المفردة الأكثر غباء على الإطلاق.


عائلة
عائلة من الكارتون، مقصوصة بأربعة أحجام متفاوتة، تشيع نماذجها الموزعة على جوانب الطرق شعورًا عارمًا بالتفاؤل والانتصار، وتلمع حول ابتساماتها الأربع، الخالدة، نجوم وكواكب وعصافير، مصنوعة من المادة نفسها.
العائلة موزعة على النحو الآتي: أب، أم، ابن، ابنة.
(بطريقة ما، أصبح هذا الترتيب، الشكل المثالي للعائلة السعيدة).
قريبًا منها، على امتداد الطريق، تنتصب أعلام راقصة، تعمل آلات غير مرئية على ضخّ الهواء من أسفلها.


مهرج
لا يتذكّر متى كانت المرّة الأولى التي أعلن فيها ابنه رغبته في أن يصبح مهرجًا. كان ذلك مفاجئًا إلى درجة أنه أطلق ضحكة مجلجلة، لن ينساها الابن مطلقًا.
لكن العبارة ذاتها "أريد، عندما أكبر، أن أغدو مهرجًا" تكرّرت مرات لا حصر لها، في ما بعد، مصحوبة بمحاولات ساذجة لمحاكاة وجوه المهرجين، وثيابهم المبهرجة، وردّات فعلهم البلهاء، إلى أن بدأ الأب يتخيّل - من دون أن يكون راغبًا في ذلك - منظر صغيره وهو يتلقّى حسنات المارة، ماطّاً شفتيه إلى الأمام، أو وهو ينزو أمامهم، كالجندب، مثيرًا ضحكاتهم.
إذ ذاك، كان يفرغ صدره من الهواء، وهو يسدّد نظرة إلى السقف:
"مهرج"!
أخيرا، أمر صغيره، من وراء سبابته، بألا يكرّر الحديث عن المهرجين أمامه، مطلقًا. فهزّ الابن رأسه صاغرًا. وخلال نحو عامين، لم يسمع منه الأب شيئًا عن أمنيته تلك.
مع هذا، كان أسى عميق يغمره، كليًا، كلّما وقعت عيناه عليه، ورأى ابتسامة الضفدع طافية على وجهه.

قصة وشعر
أضطر أحيانًا إلى فسخ صداقتي "الإلكترونية" مع أشخاص أحبهم فعلًا، أو لا أكن لهم، في الواقع، إلا المودة. أفعل ذلك بكبسة زرّ وأنا أدرك أن الصداقة الحقيقية لا تتبخّر بهذه السهولة.
لكنني أدرك، في المقابل، أن الحياة التي نعيش أوسع وأكثر تنوعًا من الفضاء الافتراضي.
لا يمكنني إقامة حوار حول الشعر أو القِصة مع صديقي الحلاق، مثلًا، لأنني أعرف أنهما غير مدرجين في قائمة اهتماماته. أفضّل - عوضًا عن ذلك - التحدّث معه عن الشّعر أو القَصة.
لكن المشكلة أننا لن نستطيع خوض هذا الحوار هنا، عبر هذه الجدران، لأن الموضوع سيبدو تافها، وهو كذلك.. ما دام قد خرج من مكانه الطبيعي إلى الملأ.
هو ذا يرسل إليّ طلب صداقة. فيمَ سنتحدّث؟ أنا لا أعرف موضوعًا غير الشعر والقصة.
أحيانًا أطرح أفكارًا عامة، أو ما يشبه ملاحظات تتعلّق بالطريقة التي أنظر بها إلى العالم من حولي. لكنني - في كلّ ما أكتب - أعصر جمجمتي كليمونة، ولا أفكّر كثيرًا في ما سيظنه القارئ بي.
ذلك عندما يكون القارئ شخصًا غامضًا، لا اسم ولا ملامح له. أما عندما يكون صديقي الحلاق.. فالأرجح أنه سيصدم بما حشوت به رأسي من أفكار. هذا الرأس الذي اعتدت، لسنوات، أن أضعه بين يديه مطمئنًا.
المساهمون