المغرب.. وأد السياسة سيناريو يتجدّد

25 اغسطس 2017
+ الخط -
منذ أفول شمس الربيع العربي، والمساعي حثيثة في المغرب للقطع مع مكتسبات هذا الربيع في نسخته المغربية التي كانت استثناء في سياق إقليمي سمته الاضطراب، مساع تعمل على الحفاظ على الطابع الاستثنائي، حتى في طرق إنهاء مسلسل الإصلاح في ظل الاستقرار الذي كان شعار المرحلة، لا بل الخطة "المتوافق عليها" لحصول البلاد على بطاقة انخراط في نادي الدول الديمقراطية.
انخرطت أغلب الأحزاب السياسية في مشروع الانتقال الديمقراطي في نسخة جديدة، بدفتر تحملات أكثر وضوحاً مما كان عليه الأمر مع نهاية التسعينات في تجربة التناوب التوافقي، لما تضمنه من توافق على دستور جديد، وتنظيم انتخاباتٍ مبكرة اتسمت بحياد الدولة.. وما إلى ذلك من مؤشراتٍ جعلت الجميع يقتنع بأن الدولة صادقةٌ في عرضها السياسي، هذه المرة، وأن العزم منعقد على طي صفحة الديمقراطية الشكلية، والتحول نحو الديمقراطية الحقيقية. لكن شيئا من ذلك لم يكن، إذ بمجرد ما أيقن النظام أن مجريات السياقين، الإقليمي والدولي، لصالحه، بدأ في إعادة الأمور إلى سابق عهدها، وإعادة ضبط عقارب الساعة كي تسير على الوتيرة التي يريدها صناع القرار، وليس وفق إيقاع الشارع والشعب والقوى الديمقراطية في البلد.
وجد النظام صعوبة بالغة في استعمال الأدوات التقليدية لما قبل فبراير/ شباط 2011، قصد إحكام قبضته على المشهد العام، واستعادة ما تنازل عنه مؤقتا في السنوات الخمس الماضية. فدرجة الوعي الشعبي داخل المجتمع ارتفعت، ما ضيَّق من هامش المناورات التقليدية لسلطة على المستوى الشعبي. وأكبر دليل على هذا ما أفرزته نتائج آخر استحقاقين انتخابيين؛
الانتخابات المحلية (سبتمبر/ أيلول 2016) والانتخابات التشريعية (أكتوبر/ تشرين الأول 2016) تباعا، على الرغم من الاستعانة بمختلف الأساليب الكلاسيكية المعروفة لتأثير في إرادة الناخبين. وازداد يقين المخزن من الطفرة النوعية التي تحققت على مستوى الوعي العام الجمعي لدى المغاربة، في الأشهر الستة التي عاشت فيها البلاد على وقع انسداد سياسي؛ أو ما يعرف محليا بالبلوكاج، كشفت أشواطه الكثيرة عن أجزاء من الصورة العامة لواقع الحال ومجريات أحوال دار المخزن. إذ يعمل أصحابها، كما يقال، "على تغيير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء"، إن جازت هذه العبارة من الناحية المنطقية.
فرضت هذه المتغيرات على حماة السلطوية إعادة ترتيب أوراقهم، بتوجيه آليات عملهم نحو جهةٍ أخرى، يتأكدون أن اشتغالهم عليها من أجل إعادة ترتيب الوضع العام سوف يكون لها مردود. بعيدا عن الجمهور الواسع من الشعب الذي أدرك بالتجربة كساد البضاعة المزجاة التي تعرضها عليه الدولة؛ ممثلة في أحزابها ووسطائهم، قبيل كل موعد انتخابي، فقرّر تغيير قواعد اللعب باختيار التصويب السياسي هذه المرة، بناء على شرعية الفعل، أو ما تسمى بالعامية المغربية "الكلمة".
تحقق هذا الأمر عمليا في الإجهاز على البقية الباقية من أحزاب في المشهد السياسي، المكتظ بأحزاب أشبه ما تكون بدكاكين سياسية؛ تعرف في الأدبيات السياسية المغربية بالأحزاب الإدارية، ممن لا يُسمع لها صوت إلا عند حلول الموسم الانتخابي، ثم بعده مباشرة حين تتصارع للظفر بالنصيب الأكبر من الغنائم في الكعكة الحكومية، متى وُجهت إلى المشاركة فيها أو الركون إلى مقاعد المعارضة، في انتظار أن يُسند إليها دور مستقبلا.
بدأت هذه العملية التي تعتمد على البلقنة الداخلية؛ لأحزاب لها شرعية تاريخية أو ديمقراطية، من دون أن تصل إلى درجة الانشقاق، وإنما الاكتفاء بظهور تياراتٍ تكون لها تقديرات متباينة للأمور، والتي تصل، في بعض الأحيان، إلى حدود التعارض داخل الحزب. إلى جانب استقواء أحدها بالدولة العميقة أو جناح في السلطة أو ما إلى ذلك. عادة ما يوصف هؤلاء "براغماتيين" متى كانوا من أصحاب المصالح، ممن لا يرغبون في الاصطدام بالدولة. وأحيانا "تكنوقراط" متى كانوا من النخبة المتعلمة التي التحقت بالحزب، اعتمادا على خبرتها العلمية والتقنية من دون أن يكون لها تاريخ نضالي.
كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أول ضحايا هذا النهج الجديد للسلطة في تعاملها مع الأحزاب ذات الشرعية، بعد الإنهاء التعسفي والقسري لتجربة التناوب التوافقي سنة 2002، من خلال قبول تيار كبير داخل حزب الاتحاد الاشتراكي برئيس حكومة (الوزير الأول آنداك) غير متحزب، على الرغم من تصدر الحزب نتائج الانتخابات. يستعاد السيناريو نفسه اليوم، بعد عقد ونصف العقد مع حزب العدالة والتنمية، مع تغيير طفيف فرضته مقتضيات النص الدستوري، يتعلق بضرورة أن رئيس الحكومة من الحزب الأول في نتائج الانتخابات.
يظهر أن نتائج هذا الأسلوب كانت مرضية من ناحية، والدليل أن الدولة العميقة عادت إلى 
توظيفه بعد 15 سنة، في سياق مختلف كليا عما كان عليه الوضع عند بداية العهد الجديد. كما أنه لا يزال فعالا، إذ استطاعت من خلاله أن تشق صف الإخوان في حزب العدالة والتنمية شقين، إلى درجة أضحى معها الحديث علانية، وليس في الكواليس كما في السابق، عن تيار الأمين العام عبد الإله بنكيران (خيار مواصلة الإصلاح)، وتيار رئيس الحكومة سعد الدين العثماني (خيار المشاركة والاستيزار). لكنها ليس كذلك من ناحية أخرى، وهذا ما يحاول أنصار السلطوية تجاهله، أو التقليل من شأنه، إن كانوا فعلا قد استوعبوه. وتتعلق بالقتل البطيء للمؤسسات الوسيطة بين القاعدة والقمة، أو بتعبير أدق بين الشعب والمؤسسة الملكية. وذلك بتجريف الحقل السياسي، وإفراغ الممارسة السياسية من أي مضمون، وإفقاد الأحزاب السياسية شرعيتها ومصداقيتها أمام المواطنين.
وخير دليل على هذا العجز البيِّن لمؤسسات الوساطة؛ وأقصد تحديدا الأحزاب، عن احتواء حراك الريف الذي يقترب من استكمال عامه الأول، في منطقةٍ جغرافيةٍ محدودة، فضاء وساكنة. في وقت استطاع فيه حزب سياسي لم تفقده السلطة عذريته السياسية، في عز الحراك المغربي مع حركة 20 فبراير، أن يقنع فئاتٍ عريضة على امتداد ربوع الوطن بإمكانية خيار ثالث يقوم على ثنائية الاستقرار والإصلاح، بعيدا عن حالتي الجمود أو الفوضى التي عمّت المنطقة العربية.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري