30 أكتوبر 2024
المغرب العربي ضدّ أوضاع الاستبداد
انتهت المطالبات العربية، بعد قرابة خمس سنوات من اندلاع موجة "الربيع العربي"، إلى اختصار شعارات الجماهير من "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" إلى مطالبةٍ واحدةٍ "عيش" فقط، إثر "ثورات مضادّة"... وانحسار كل الجهد الثوري - الانتفاضي على بطن جائع، في غضون تدخل أجنبي وكرسي لمستبد لا يريد عنه فكاكا، حتى و لو على جماجم الآلاف، بل الملايين، من أبناء شعبه.
من أكثر المفردات تردّدًا، منذ العام 2011، الثورة والانتفاضة، وكلتاهما تعبّران عن وضعٍ لا يصح أن تشخّص به الحالات العربية، إذ إنها إما أن تصلح ويطرح الأسوأ منها، وهنا التوصيف اللائق هو "الانتفاضة"، أو أن تكون الأوضاع فاسدةً، متردّيةً وتحتاج إلى إعادة نظر جذرية ليكون الوضع، هنا، "ثورة"، بالمعنى اليساري، أي وجود الحاجة للاستدارة، بالكلية، على الأوضاع الحالية، والاستعاضة عنها بأوضاع جديدة بالكلية.
بالرجوع إلى ما حدث في العالم العربي في عام 2011، كان الوضع لا يكاد يتجاوز حالة عربيةً تعرف نقصاً في "الحرية" (تقرير الأمم المتحدة في بداية الألفية الثالثة)، وغيابا كلياً لدور ما "للمرأة" (تقرير آخر لنفس المنظمة)، إضافة إلى غيابٍ للتنافسية، نقص في مؤشرات التنمية البشرية، وصولا إلى حالة ترقب من القوى الكبرى في العالم بسبب "هشاشة" الأنظمة العربية و"استعصاء المجتمعات العربية عن التغيير"، وتجذّر "رفض الآخر في المرجعية الحضارية العربية -الإسلامية"...إلخ.
وقد ترجمت حالات الحراك العربي في عام 2011 تلك الأوضاع برفعها شعار "عيش، حرية وعدالة اجتماعية"، وهي كلمات عفوية تلخص الوعي الجماهيري في العالم العربي للوضع برمته، وعلى المستويات كافة، إذ إن الوضع العربي هو، في الأصل، حصيلة لنقص في نوعية الحياة بغياب الحياة الرغيدة (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وليس مستغربا أن يكون ذلك منطلق حراك "انتفاضة الزيت والسكر" في الجزائر، والتي
تزامنت مع حرق محمد البوعزيزي نفسه في تونس، غير أن الفارق، في الحالة الجزائرية، هو في قرب تلك الأحداث من مخيلة "العشرية الحمراء" التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الجزائريين، في تسعينيات القرن الماضي. ما كان كابحاً لإرادة التصعيد من "المجتمع المدني" وحجّة لاحتواء الوضع بقرار دعم جديد للمواد الأساسية، على خلفية توفّر موارد ضخمة من عائدات ارتفاع أسعار النفط، آنذاك. إنها انتفاضة "عيش" فقط، من دون أبعاد سياسية، على الرغم من مسارعة السلطات إلى اتخاذ حزمةٍ من القرارات الإصلاحية، بعد التغييرات التي شهدتها كل من تونس وليبيا ومصر في الأشهر الأولى من عام 2011.
بالنسبة للحالات، المغربية والتونسية والليبية، فإنها أخذت مساراتٍ مختلفة، رحيل زين العابدين بن علي، وبدء العد التنازلي لإرساء دعائم لنظام سياسي جديد في تونس، وقيام حرب أهلية في ليبيا ما زالت مستعرة، مع احتمال تقسيـــم البلاد وازدياد وتيرة التدخل الأجنبي (أوروبي وأميركي) لتحريك المسارات وفق ما تمليه المصالح، وخصوصا منها النفطيـة والغازية. أما الحالة المغربية فقد سارت بخطى "الإصلاح المقنّع" نفسه الذي شهدته الجزائر، على الرغم من أنه كانت لحراك "20 فبراير" أرضية مطالب، كان يمكن لها أن تعد منطلقاً لإرساء دعائم "الملكية الدستورية" الحقّة.
على خلفية كلّ هذا الحراك المغاربي، يمكن ملاحظة اشتراكه في المنطلقات، واختلافه في المآلات، حيث إن الشعارات التي رفعت لم يكن لها علاقة، البتة، بالجانب السياسي، بل كانت المنطلقات جميعها اقتصادية خالصة، ثم منحت لها أبعاد أخرى، انتقلت بها من مجرّد حراك احتجاجي، للمطالبة بالعمل والعيش الكريم وبتوفير اللقمة التي استحوذت عليها ثلةٌ من الفاسدين المقرّبين من السلطة الحاكمة، هنا وهناك، في المغرب العربي، إلى حراكٍ ذي خلفيةٍ سياسيةٍ بدون تحضير الأجواء لذلك، لأنّ الأنظمة السياسية عملت، منذ موجة الاستقلال، على تجسيد الحكم في نخبٍ محدّدة، توسعت لتصبح نخبة اقتصادية، وتحكم، بذلك، بشدة على دواليب الحكم من دون فضاء لدوران نخبٍ، كان من الممكن أن يعمل على الاستفادة من الفضاء السياسي الذي فتح ليقلب الأوضاع رأسا على عقب، ويحول الحراك الاحتجاجي إلى ثورة حقيقية.
بالنتيجة، تكون الاحتجاجات كلها ذات خلفية اقتصادية، حاولت النظم السياسية ركوب موجتها لإدخال جرعاتٍ من الإصلاحات، لكن بالنخب نفسها، ولم تنفع معها قوانين العزل السياسي، ولا محاولات تغيير مسار النظام بفرض منحى المجلس التأسيسي، ثم إقرار دستور جديد، وإجرائية انتخابية من القمة إلى القاعدة، كما تم في تونس.
النتيجة الأخرى أن تلك المطالبات التي لم تكن سياسية ذهبت، أيضا، إلى منحىً آخر تعرفنا معه، كما جرى ذلك في الحالة الجزائرية، على المعاني الحقيقية لمصطلحات "الدولة العميقة" و"الثورة المضادّة"، بل وتعرّفنا على الحدود التي يسمح بها للإصلاحات أن تدركها في بيئتنا العربية.
ما بين عفوية المنطلقات وعبقرية المآلات، تقع الاستحالة التي أصبحت ملازمةً للعالم العربي، بخصوص النجاح في أية عملية انتقال/ تحول/ تغيير نحو الديمقراطية، حيث إن الشعار انحسر ليبقى منحصراً في المطالبة بالعيش، تاركا العدالة الاجتماعية والكرامة لمن "يتصدّقون" بها على المجتمعات العربية من نخبٍ محلية، وأنظمة/ قوى عالمية، وأخرى إقليمية، كتب لها أن تكون الحائط الذي تصطدم به أية مطالبات، تتجاوز الحدود المسموح بها (لقمة العيش) بعيدا عن الحلم بيوم تسطع فيه شمس الحرية (العدالة الاجتماعية والكرامة) على الإنسان العربي.
ثورات مضادّة، دول عميقة، حروب أهلية، كلها مآلات أصبحت البديل في معادلة حفظها العرب جميعهم، تتكون من طرفٍ معلوم هو الحاجة بل حتمية التغيير، ومجهول هو استحالة/ استعصاء تجاوز حجم التغيير الحدود المسموح بها دوليا وإقليميا.
كيف يمكن، في حالة الجزائر، أن تصبح المطالبة بالتغيير في تسعينيات القرن الماضي ذاكرة
محملة بجماجم مئات الآلاف من القتلى في حربٍ أهليةٍ، نعرف كيف انطلقت (توقيف المسار الانتخابي)، لكن لا نعرف لماذا تولّد عنها جنون الذبح، القنابل، المجازر الجماعية والاعتقالات القسرية والاختفاءات بعشرات الآلاف...؟
كيف يمكن، في الحالة الليبية، أن يصبح مجرد المطالبة بالتغيير، في إطار موجة الانتفاضة "العفوية" مشروعا لحرب أهلية، انقسام/ تقسيم للبلاد: برلمانان وحكومتان ومشروع دستور فيدرالي، لتفجير ليبيا إلى ثلاث مناطق برعاية دولية وإقليمية، نقف على بعض تفاصيلها، ولكن تخفى علينا كثير من مخططاتها؟
كيف يمكن، في الحالة التونسية، أن ينتهي "النموذج التغييري" إلى ضائقةٍ اقتصاديةٍ، يتمنى معها بعض التونسيين عودة بن علي، مع زوال ضبابية المشهد أمنياً، سياسياً واقتصادياً بقتامته، وشبح انبعاث الحالة التي ثار عليها التونسيون، من أجل أن يتغيروا؟
كيف يمكن، في الحالة المغربية، أن تنحسر جبال "نموذج الاستقرار المغربي" في ظل الانفجار المتنوع في المنطقة، على "حراك الريف" بشعار بكلمة واحدة، لا غير، "لقمة العيش"...؟
بالنتيجة، إذن، وبعيداً عن كل عبقرية في التحليل، هي حالة عودٍ على بدء إلى المنطلقات، مع الجزم بأنه ليس ثمّة مآلات غير التي رسمت للمنطقة برمتها، لتبقى في ظلام الاستبداد، ولا تبقى في مخيلة الشباب، التواق إلى التغيير، إلا ذكريات أن المجازفة بالمطالبة بالتغيير ليس لها نهاية إلا مشاريع لتهديم الدول، مع جمل تبقى خالدة الذكر "الإمارة ولو على الحجارة".
ليست الإشكالية في وجود ميكانيزمات للتغيير ونماذج للحوكمة، طريقين على الجميع السير فيهما، بل في وجود حجم للتغيير لا يمكن تجاوزه، ونموذج للحوكمة هو "قدر" من الأقدار المحتومة غير القابلة للزحزحة من مكانها... الإشكالية، في النهاية، في أن لقمة العيش أقصى مخيّلة العربي، ودوران النخب "مكتوب على الجبين العربي".
من أكثر المفردات تردّدًا، منذ العام 2011، الثورة والانتفاضة، وكلتاهما تعبّران عن وضعٍ لا يصح أن تشخّص به الحالات العربية، إذ إنها إما أن تصلح ويطرح الأسوأ منها، وهنا التوصيف اللائق هو "الانتفاضة"، أو أن تكون الأوضاع فاسدةً، متردّيةً وتحتاج إلى إعادة نظر جذرية ليكون الوضع، هنا، "ثورة"، بالمعنى اليساري، أي وجود الحاجة للاستدارة، بالكلية، على الأوضاع الحالية، والاستعاضة عنها بأوضاع جديدة بالكلية.
بالرجوع إلى ما حدث في العالم العربي في عام 2011، كان الوضع لا يكاد يتجاوز حالة عربيةً تعرف نقصاً في "الحرية" (تقرير الأمم المتحدة في بداية الألفية الثالثة)، وغيابا كلياً لدور ما "للمرأة" (تقرير آخر لنفس المنظمة)، إضافة إلى غيابٍ للتنافسية، نقص في مؤشرات التنمية البشرية، وصولا إلى حالة ترقب من القوى الكبرى في العالم بسبب "هشاشة" الأنظمة العربية و"استعصاء المجتمعات العربية عن التغيير"، وتجذّر "رفض الآخر في المرجعية الحضارية العربية -الإسلامية"...إلخ.
وقد ترجمت حالات الحراك العربي في عام 2011 تلك الأوضاع برفعها شعار "عيش، حرية وعدالة اجتماعية"، وهي كلمات عفوية تلخص الوعي الجماهيري في العالم العربي للوضع برمته، وعلى المستويات كافة، إذ إن الوضع العربي هو، في الأصل، حصيلة لنقص في نوعية الحياة بغياب الحياة الرغيدة (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وليس مستغربا أن يكون ذلك منطلق حراك "انتفاضة الزيت والسكر" في الجزائر، والتي
بالنسبة للحالات، المغربية والتونسية والليبية، فإنها أخذت مساراتٍ مختلفة، رحيل زين العابدين بن علي، وبدء العد التنازلي لإرساء دعائم لنظام سياسي جديد في تونس، وقيام حرب أهلية في ليبيا ما زالت مستعرة، مع احتمال تقسيـــم البلاد وازدياد وتيرة التدخل الأجنبي (أوروبي وأميركي) لتحريك المسارات وفق ما تمليه المصالح، وخصوصا منها النفطيـة والغازية. أما الحالة المغربية فقد سارت بخطى "الإصلاح المقنّع" نفسه الذي شهدته الجزائر، على الرغم من أنه كانت لحراك "20 فبراير" أرضية مطالب، كان يمكن لها أن تعد منطلقاً لإرساء دعائم "الملكية الدستورية" الحقّة.
على خلفية كلّ هذا الحراك المغاربي، يمكن ملاحظة اشتراكه في المنطلقات، واختلافه في المآلات، حيث إن الشعارات التي رفعت لم يكن لها علاقة، البتة، بالجانب السياسي، بل كانت المنطلقات جميعها اقتصادية خالصة، ثم منحت لها أبعاد أخرى، انتقلت بها من مجرّد حراك احتجاجي، للمطالبة بالعمل والعيش الكريم وبتوفير اللقمة التي استحوذت عليها ثلةٌ من الفاسدين المقرّبين من السلطة الحاكمة، هنا وهناك، في المغرب العربي، إلى حراكٍ ذي خلفيةٍ سياسيةٍ بدون تحضير الأجواء لذلك، لأنّ الأنظمة السياسية عملت، منذ موجة الاستقلال، على تجسيد الحكم في نخبٍ محدّدة، توسعت لتصبح نخبة اقتصادية، وتحكم، بذلك، بشدة على دواليب الحكم من دون فضاء لدوران نخبٍ، كان من الممكن أن يعمل على الاستفادة من الفضاء السياسي الذي فتح ليقلب الأوضاع رأسا على عقب، ويحول الحراك الاحتجاجي إلى ثورة حقيقية.
بالنتيجة، تكون الاحتجاجات كلها ذات خلفية اقتصادية، حاولت النظم السياسية ركوب موجتها لإدخال جرعاتٍ من الإصلاحات، لكن بالنخب نفسها، ولم تنفع معها قوانين العزل السياسي، ولا محاولات تغيير مسار النظام بفرض منحى المجلس التأسيسي، ثم إقرار دستور جديد، وإجرائية انتخابية من القمة إلى القاعدة، كما تم في تونس.
النتيجة الأخرى أن تلك المطالبات التي لم تكن سياسية ذهبت، أيضا، إلى منحىً آخر تعرفنا معه، كما جرى ذلك في الحالة الجزائرية، على المعاني الحقيقية لمصطلحات "الدولة العميقة" و"الثورة المضادّة"، بل وتعرّفنا على الحدود التي يسمح بها للإصلاحات أن تدركها في بيئتنا العربية.
ما بين عفوية المنطلقات وعبقرية المآلات، تقع الاستحالة التي أصبحت ملازمةً للعالم العربي، بخصوص النجاح في أية عملية انتقال/ تحول/ تغيير نحو الديمقراطية، حيث إن الشعار انحسر ليبقى منحصراً في المطالبة بالعيش، تاركا العدالة الاجتماعية والكرامة لمن "يتصدّقون" بها على المجتمعات العربية من نخبٍ محلية، وأنظمة/ قوى عالمية، وأخرى إقليمية، كتب لها أن تكون الحائط الذي تصطدم به أية مطالبات، تتجاوز الحدود المسموح بها (لقمة العيش) بعيدا عن الحلم بيوم تسطع فيه شمس الحرية (العدالة الاجتماعية والكرامة) على الإنسان العربي.
ثورات مضادّة، دول عميقة، حروب أهلية، كلها مآلات أصبحت البديل في معادلة حفظها العرب جميعهم، تتكون من طرفٍ معلوم هو الحاجة بل حتمية التغيير، ومجهول هو استحالة/ استعصاء تجاوز حجم التغيير الحدود المسموح بها دوليا وإقليميا.
كيف يمكن، في حالة الجزائر، أن تصبح المطالبة بالتغيير في تسعينيات القرن الماضي ذاكرة
كيف يمكن، في الحالة الليبية، أن يصبح مجرد المطالبة بالتغيير، في إطار موجة الانتفاضة "العفوية" مشروعا لحرب أهلية، انقسام/ تقسيم للبلاد: برلمانان وحكومتان ومشروع دستور فيدرالي، لتفجير ليبيا إلى ثلاث مناطق برعاية دولية وإقليمية، نقف على بعض تفاصيلها، ولكن تخفى علينا كثير من مخططاتها؟
كيف يمكن، في الحالة التونسية، أن ينتهي "النموذج التغييري" إلى ضائقةٍ اقتصاديةٍ، يتمنى معها بعض التونسيين عودة بن علي، مع زوال ضبابية المشهد أمنياً، سياسياً واقتصادياً بقتامته، وشبح انبعاث الحالة التي ثار عليها التونسيون، من أجل أن يتغيروا؟
كيف يمكن، في الحالة المغربية، أن تنحسر جبال "نموذج الاستقرار المغربي" في ظل الانفجار المتنوع في المنطقة، على "حراك الريف" بشعار بكلمة واحدة، لا غير، "لقمة العيش"...؟
بالنتيجة، إذن، وبعيداً عن كل عبقرية في التحليل، هي حالة عودٍ على بدء إلى المنطلقات، مع الجزم بأنه ليس ثمّة مآلات غير التي رسمت للمنطقة برمتها، لتبقى في ظلام الاستبداد، ولا تبقى في مخيلة الشباب، التواق إلى التغيير، إلا ذكريات أن المجازفة بالمطالبة بالتغيير ليس لها نهاية إلا مشاريع لتهديم الدول، مع جمل تبقى خالدة الذكر "الإمارة ولو على الحجارة".
ليست الإشكالية في وجود ميكانيزمات للتغيير ونماذج للحوكمة، طريقين على الجميع السير فيهما، بل في وجود حجم للتغيير لا يمكن تجاوزه، ونموذج للحوكمة هو "قدر" من الأقدار المحتومة غير القابلة للزحزحة من مكانها... الإشكالية، في النهاية، في أن لقمة العيش أقصى مخيّلة العربي، ودوران النخب "مكتوب على الجبين العربي".