المغرب.. الدولة والسلطة

19 يوليو 2019
+ الخط -
رأى رجال سياسة وصحافة في قرار العفو الملكي في المغرب؛ بمناسبة عيد الفطر، عن أزيد من مائة شخص من المعتقلين بسبب احتجاجات، إعلانا عن مرحلة جديدة من المصالحة مع المحتجين الذين أكد مسؤولون في الدولة مشروعية مطالبهم. ولكن الأمر في حقيقته مجرد تعبير عن أعراض ازدواجية شخصية الدولة، فهو صورة من صراع قديم يتجدد في المغرب بين عقليتي الدولة والسلطة، تتناوبان، أو بتعبير أدق تتصارعان، داخل مراكز صناعة القرار بدواليب الدولة، منذ اندلاع أحداث الربيع العربي، فبعد أسابيع قليلة عن واقعة العفو، أصدر المندوب الوزاري لحقوق الإنسان، أحمد شوقي بينوب، تقريرا عن"أحداث الريف"، يدافع فيه عن تأويل السلطة الوقائع والأحداث، تبنّى فيه مضامين الرواية الرسمية، من دون الروايات الأخرى للمؤسسات الدستورية الموازية، وطيف واسع من هيئات المجتمع المدني. وانتصار هذا الرجل لرواية السلطة، من دون تدقيق في المساطر والمسؤوليات ورصد للتجاوزات، في تقريره المتهافت منهجا وتوثيقا وتركيبيا، يكشف طبيعة الصراع وحجمه بين العقلين داخل أجهزة النظام؛ فما أن تظهر في الأفق خطوة أو مبادرة من أصحاب عقلية الدولة، حتى يعقبها على عجل أنصار عقلية السلطة، قصد محوها، أو على الأقل تبخيسها، وتثبيت رأيهم وموقفهم.
يبدو أن المندوب الوزاري؛ الحقوقي الشرس الذي لعب دورا في ميلاد هيئة الإنصاف والمصالحة (2004)، فهم الدور المطلوب منه، ولذلك جاءت أولى إطلالاته، بعد أشهر من توليه المنصب الذي استحدثته السلطة على المقاس، بهذا التقرير المنحاز الذي برّأ ذمة الدولة من أي مسؤوليةٍ فيما جرى في الريف. أدرك أن معاكسة التيار تفضي، في النهاية، إلى الإقصاء والاستبعاد، وعاين عن كثب الكيفية التي أبعِد بها الرئيس السابق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان من منصبه قبل أشهر، وتجري الترتيبات لإبعاد الأمين العام للمجلس، محمد الصبار، بالطريقة نفسها، فقط لأن الرجلين قرّرا العمل بشرعية المؤسسات، وفق دستور 2011، وانحيازا في تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان لعقلية الدولة، فأقرّا بوقوع تعذيبٍ وتجاوزاتٍ في حق معتقلي الريف.
شهد المغرب، في الفترة الأخيرة، قضايا عديدة تحولت، بفعل الصراع بين الفصيلين في مربع 
الحكم، إلى أزمات، أدت إلى اهتزاز منسوب ثقة المواطنين في الدولة ومؤسساتها، بعدما فتحت وسائل التواصل الاجتماعي أعينهم على معطيات وحقائق مغايرة للسردية التي تروّجها السلطة في الإعلام العمومي الرسمي. وكانت أزمة طلبة كليات الطب والصيدلة في المغرب، في ست مدن كبرى، أحد فصول هذا الصراع، فعلى مدار أشهر، تابع الجميع التطورات المتلاحقة لهذا الملف، وقد بلغت مداها بالتلويح بسنة دراسية بيضاء، بعد قرار 18 ألف طالب وطالبة مقاطعة الامتحانات التي كانت مسبوقة بمقاطعة شاملة لدروس النظرية والتطبيقية. وقبلها أزمة الأساتذة المتعاقدين المطالبين بالترسيم في أسلاك الوظيفة العمومية، والتي استمرت أسابيع، دبرتها الحكومة من خلال الوزارة الوصية بطريقة ارتجالية، معتمدة أساليب سلطوية (التدخل الأمني، التهديد بالطرد، توقيف الأساتذة، وقف صرف الأجور..) أبعد ما تكون عن التعقل والمسؤولية، بشهادة أطراف داخل الحكومة. أدت، في المحصلة، إلى هدر قياسي في الزمن المدرسي.
يلجأ العقل المخزني، عند كل أزمة، إلى أساليب قديمة، للحفاظ على "هيبة الدولة" التي لا ينبغي لها مطلقا أن تبدو مهزومة. ولذا لا يتردّد في استعادة أسطوانات مشروخة لتبرير مقاربته السلطوية واختياراته في تدبير هذا الملف، أو تلك القضية، فنشطاء الريف؛ من وجهة نظر أصحاب هذا العقل، انفصاليون وعملاء لأجندات خارجية. بينما طلاب كليات الطب، وقبلهم الأساتذة المتعاقدون، مستغلون من جماعة العدل والإحسان المعارضة، لتصريف مواقفها السياسية.
هذا الصراع بين العقليتين في مؤسسات الدولة أكبر مؤثر على هيبتها، فثقة المواطن البسيط في مؤسسات بلده لا تحتاج إلى اتهامات ومؤامرات.. وما إلى ذلك من أساليب زمن الجمر
والرصاص، بقدر ما تتأسس على إحساسه بامتلاكه مطلق القدرة على محاسبة كل من أسندت إليه المسؤولية. ويبقى الأمر نسبيا فقط، على الرغم مما أقرّه دستور 2011 من قواعد بهذا الشأن، فالظاهر أن "حكومة الظل" أو "الدولة العميقة" لا تعير أي اهتمام لهذه القواعد، مهما علا شأنها، فالربيع المغربي، بكل منجزاته، لم يقوَ على وضع حد لمنطق التعليمات في هياكل الدولة وأجهزتها، فقبل أيام، أبدى وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، مصطفى الرميد، في لقاء حزبي انزعاجه من الإشارة إلى جماعة العدل والإحسان بالاسم، في البلاغ (البيان) الحكومي بشأن أزمة طلبة الطب، معتبرا أن موقف الحكومة هذا كان بناءً على "تعليماتٍ من أعلى". وهذا ليس جديدا، فقد اشتكى منه مراتٍ رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران. وبلغ به الأمر حد التصريح، في إحدى خرجاته (إطلالاته) الإعلامية المثيرة، إن في المغرب حكومتين: واحدة رسمية ومعروفة برئاسة جلالة الملك، والثانية لا يدري أحدٌ من يتحكم فيها.
سوف يشتد الصراع والتوتر بين الطرفين، فكل منهما يحاول تسجيل أكبر عدد من النقاط لصالحه، قبل بلوغ سنة 2021، موعد النزال الانتخابي الذي يبدو أنه سيكون بلا جمهور. فلم يعد في المشهد المغربي ما يغري بالمتابعة، بعدما استردّ المخزن بالتقسيط ما منحه مكرها في عز الربيع العربي.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري