24 أكتوبر 2024
المغرب... إضراب بدلالات مغايرة
لم يكن الإضراب العام الذي عرفه المغرب يوم 24 فبراير/ شباط الجاري مجرد محطةٍ في معركة شد الحبل المستمرة بين النقابات وحكومة عبد الإله بنكيران، على خلفية مشروع إصلاح صناديق التقاعد الذي قدمته الأخيرة، بل ربما كان اختباراً سعى، من خلاله، الفاعلون، على اختلاف مواقعهم، إلى معرفة مدى نفوذهم وسلطتهم داخل حقل اجتماعي، ما فتئ يتحوّل ويفرز دينامياتٍ جديدة، تعود بالأساس إلى تغيّر بنية الفاعلين المؤثرين فيه، وبروز أشكالٍ احتجاجيةٍ جديدة غير مألوفة، وتراجع آليات الوساطة التقليدية المعنية (اليسار بشقيه الإصلاحي والراديكالي، النقابات الكبرى ومنظمات المجتمع المدني)، هذا علاوة على افتقاد الحكومة التي يقودها الإسلاميون الخبرة الكافية في التعامل مع خطابٍ نقابيٍّ وافدٍ من ثقافة سياسية يسارية مختلفة.
منذ انطلاق النسخة المغربية من الربيع العربي، قبل خمسة أعوام، بدا واضحاً أن صيغ مقاربة هذا الحقل، والتي اعتمدتها السلطة والنخب، في العقدين الأخيرين، في حاجةٍ لمراجعة شاملة تجد مبرّرها الرئيسي فيما يعتمل داخل المجتمع من متغيراتٍ، لا يمكن القفز عليها. فالفعل الاحتجاجي بات يتطوّر بوتيرةٍ متسارعةٍ، سواء في أشكاله (الرهان على الإعلام الاجتماعي، الانتظام في تنسيقياتٍ مفتوحةٍ، بعيداً عن أي لون حزبي أو نقابي) أو في مضامينه التي تنصب على مطالب اجتماعية بحتة، تهم قطاعاتٍ مختلفة، أو حتى في رؤيته لقضايا شائكة، من قبيل المشاركة السياسية والإصلاح والقوى المجتمعية التي يفترض أن تدفع الكلفة السياسية والاجتماعية لأي تحّولٍ، يمكن أن يطرأ على التوازنات القائمة. أمام هذا الوضع، تبدو آليات الوساطة السالف ذكرها عاجزةً عن تأطير هذا الفعل، واستيعاب امتداداته داخل الشارع وتطويقها، وذلك بسبب تراجع خطابها الفكري والسياسي وقدراتها التعبوية، وعجزها عن تقديم اقتراحاتٍ واجتهاداتٍ بديلةٍ نابعةٍ من المتغيرات الاقتصادية الحاصلة في العالم، وارتهانها لخطابٍ يساريٍّ متجاوزٍ، لا ينتبه إلى أن مياهاً كثيرةً جرت تحت الجسور، وأن السياسة لم يعد لها الكثير، لتقوله أمام سطوة الاقتصاد وجبروته. وجاءت مشكلة إصلاح صناديق التقاعد التي لا تزال تثير نقاشاً عمومياً واسعاً، لتزيد الأمر صعوبةً، في ظل إصرار الحكومة على تمرير رؤيتها للحل، بشكل انفراديٍّ، عوض طرح المشكلة على مائدة الحوار المجتمعي المفتوح الذي لا يُقصي أحداً، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلاتٍ، بشأن مدى امتلاك النخب الإسلامية رؤيةً نقديةً متوازنةً للسياسات العمومية، وكلفتها بالنسبة لمكونات المجتمع المختلفة، من دون محاباةٍ لطرفٍ على حساب آخر، ذلك أن فئاتٍ واسعةً ترى في مشروع حكومة بنكيران لإصلاح هذه الصناديق استئساداً غير مبرّر على الحلقة الأضعف في معادلة التوازن الاجتماعي، وهي الطبقات الوسطى والفقيرة، في حين أنها (الحكومة) لا تتورّع عن مغازلة قوى الفساد والريع ومهادنتها في تنكّر سافرٍ للوعود التي أطلقها رئيسها قبل أربعة أعوام، بخصوص مكافحة الفساد والعمل على إحلال السلم الأهلي والاجتماعي.
من ناحية أخرى، لا تكتسي حساسية الحقل الاجتماعي دلالتها وأهميتها مما سبق فحسب، بل
تتجاوزه إلى المفاصل العميقة للنظام السياسي المغربي. فغالباً ما تواجه الأنظمة التي تعرف نوعاً من اللبرلة السياسية المتحكّم فيها (يقع هذا النظام ضمنها!) معضلةً بنيوية دائمة، تتمثل في صعوبة التوفيق بين قدرتها على استيعاب وإدماج القوى والنخب المختلفة والمتطلعة لأخذ حصتها في السلطة والثروة، وقدرتها على الاستجابة للمطالب الاجتماعية المتزايدة، والتي لا تزيدها مؤشراتٌ، من قبيل تراجع الاستثمار العمومي وتزايد نسبة الفقر والبطالة وفشل بناء المشروع الوطني، إلا حدةً وتصاعداً. ومنذ انخراط المغرب في حزمة إصلاحاتٍ ماليةٍ متواصلةٍ، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، تحولت هذه المعضلة إلى عنوانٍ لأداء الحكومات المتعاقبة، بتركيز سياساتها على التوازنات المالية التي تفرضها المؤسسات الدولية المانحة، وعجزها، في المقابل، عن الحد من أسباب الاحتقان الاجتماعي وتداعياته، لا سيما في مجالات حساسّة، مثل التشغيل والصحة والتعليم وغيرها. ولذلك، كان لجوء السلطة في المغرب إلى آلية الحوار الاجتماعي، في منتصف التسعينات، تعبيراً دالاً عن العجز عن الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية.
بيد أن المتغيرات الديمغرافية والسوسيولوجية والثقافية التي عرفها المجتمع في العقدين المنصرمين، وانكفاء الإيديولوجيات والعقائد السياسية الكبرى، وفورة الإعلام البديل، والزخم الشعبي الذي أحدثته ثورات الربيع العربي في المنطقة، عوامل كلها تجعل القدرة على التوفيق بين التحديات السياسية والاجتماعية حالياً أكثرَ صعوبةً بالنسبة لسلطةٍ هاجسُها الأساسي الإبقاء على معادلة "الإصلاح مع الاستقرار" محركاً لمختلف خيوط الصراع الاجتماعي في المغرب.
منذ انطلاق النسخة المغربية من الربيع العربي، قبل خمسة أعوام، بدا واضحاً أن صيغ مقاربة هذا الحقل، والتي اعتمدتها السلطة والنخب، في العقدين الأخيرين، في حاجةٍ لمراجعة شاملة تجد مبرّرها الرئيسي فيما يعتمل داخل المجتمع من متغيراتٍ، لا يمكن القفز عليها. فالفعل الاحتجاجي بات يتطوّر بوتيرةٍ متسارعةٍ، سواء في أشكاله (الرهان على الإعلام الاجتماعي، الانتظام في تنسيقياتٍ مفتوحةٍ، بعيداً عن أي لون حزبي أو نقابي) أو في مضامينه التي تنصب على مطالب اجتماعية بحتة، تهم قطاعاتٍ مختلفة، أو حتى في رؤيته لقضايا شائكة، من قبيل المشاركة السياسية والإصلاح والقوى المجتمعية التي يفترض أن تدفع الكلفة السياسية والاجتماعية لأي تحّولٍ، يمكن أن يطرأ على التوازنات القائمة. أمام هذا الوضع، تبدو آليات الوساطة السالف ذكرها عاجزةً عن تأطير هذا الفعل، واستيعاب امتداداته داخل الشارع وتطويقها، وذلك بسبب تراجع خطابها الفكري والسياسي وقدراتها التعبوية، وعجزها عن تقديم اقتراحاتٍ واجتهاداتٍ بديلةٍ نابعةٍ من المتغيرات الاقتصادية الحاصلة في العالم، وارتهانها لخطابٍ يساريٍّ متجاوزٍ، لا ينتبه إلى أن مياهاً كثيرةً جرت تحت الجسور، وأن السياسة لم يعد لها الكثير، لتقوله أمام سطوة الاقتصاد وجبروته. وجاءت مشكلة إصلاح صناديق التقاعد التي لا تزال تثير نقاشاً عمومياً واسعاً، لتزيد الأمر صعوبةً، في ظل إصرار الحكومة على تمرير رؤيتها للحل، بشكل انفراديٍّ، عوض طرح المشكلة على مائدة الحوار المجتمعي المفتوح الذي لا يُقصي أحداً، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلاتٍ، بشأن مدى امتلاك النخب الإسلامية رؤيةً نقديةً متوازنةً للسياسات العمومية، وكلفتها بالنسبة لمكونات المجتمع المختلفة، من دون محاباةٍ لطرفٍ على حساب آخر، ذلك أن فئاتٍ واسعةً ترى في مشروع حكومة بنكيران لإصلاح هذه الصناديق استئساداً غير مبرّر على الحلقة الأضعف في معادلة التوازن الاجتماعي، وهي الطبقات الوسطى والفقيرة، في حين أنها (الحكومة) لا تتورّع عن مغازلة قوى الفساد والريع ومهادنتها في تنكّر سافرٍ للوعود التي أطلقها رئيسها قبل أربعة أعوام، بخصوص مكافحة الفساد والعمل على إحلال السلم الأهلي والاجتماعي.
من ناحية أخرى، لا تكتسي حساسية الحقل الاجتماعي دلالتها وأهميتها مما سبق فحسب، بل
بيد أن المتغيرات الديمغرافية والسوسيولوجية والثقافية التي عرفها المجتمع في العقدين المنصرمين، وانكفاء الإيديولوجيات والعقائد السياسية الكبرى، وفورة الإعلام البديل، والزخم الشعبي الذي أحدثته ثورات الربيع العربي في المنطقة، عوامل كلها تجعل القدرة على التوفيق بين التحديات السياسية والاجتماعية حالياً أكثرَ صعوبةً بالنسبة لسلطةٍ هاجسُها الأساسي الإبقاء على معادلة "الإصلاح مع الاستقرار" محركاً لمختلف خيوط الصراع الاجتماعي في المغرب.