المعركة ليست إعلامية

24 اغسطس 2014

عمل لـ"مارتن باروود"

+ الخط -


بات الاقتناع بمقولات الحتمية الإعلامية ثابتاً في أيامنا هذه، بل تعدّى الأمر الاقتناع إلى الإيمان. سريعاً، اقتنع الناس وأُقْنِعوا أن السر في الإعلام، وأن "المعركة إعلامية". وبدل مراقبة موازين القوى وحركة المتغيرات الصلبة في أي مواجهةٍ أو حراك، صار التحديق بالشاشات والصحف والصور سبيلاً للبت باحتمالات النصر والهزيمة.

من الثابت أن حالة الثورة المصرية شكلت مفصلاً مهماً في فهم دور الإعلام والتعويل عليه، تحديداً دوره في دفع متلقي الرسالة الإعلامية، للتحرك في الواقع، هكذا نجح "فيسبوك"، وفشلت جوقة فضائيات النظام حتى حين، إلا أن انحرافاً كبيراً أخذ بالاتساع بعد ذلك، فالتعويل على الإعلام، اليوم، يبدو مشوشاً، فبعد أن كان يهدف لمخاطبة الفاعلين المتصلين بقضية بعينها، ليمارسوا فعلاً في الواقع، بات يخاطب جمهوراً عاماً غائماً غير محدد، وفي أحيان كثيرة، يخاطب رأيا عاما عالمياً، كأنه موجود أصلاً. وفي أحسن الأحوال، يأتي الرد برسالة إعلامية أخرى، فالفاعلون تحوّلوا وسطاء للرسالة الإعلامية، ومحركين لها، أو مجرد حلقة في متتالية رسائل إعلامية تتلاشى، ربما يشبه الأمر تلاشي صورة أيام الثورة الأولى أمام الواقع الصلب اليوم.

مكمن المخاتلة، هنا، أن هذه القناعة بإعلامية "المعركة" لم تثبتها الوقائع والدلائل والبراهين، بل الماكينة الاعلامية نفسها، وهذا جزء مسكوتٌ عنه في محاولة فهم الحالة، إننا أمام آلة ضخمة هي من تقنعنا بفعاليتها، ولم يتسنّ لنا فحص هذه المقولات، من خارج سطوة الآلة. ولعل واحدة من الحقائق الأساسية، المغيّبة في هذا السجال، أن كل ما يندرج تحت مسمى الاعلام بات قطاعاً واسعاً شاسعاً يعمل فيه على مستوى كل دولة عربية مثلا عشرات الآلاف بل مئاتهم، وتتكسب من هذا القطاع قطاعاتٌ أوسع، ويتصل به منتفعون واقتصاديون ومثقفون ونخب، كل هؤلاء يرعون أسطورة الإعلام، لأنها، بالدرجة الأولى، مجال عيشهم بكل معاني الكلمة، وهم مستفيدون من ترسّخ القناعة بالأثر المطلق للإعلام، بل يصح القول إن التشكيك بهذه الفعالية الإعلامية هو منازعة لهم على مواقعهم ومكتسباتهم وسيطرتهم.

هل يمكن، اليوم، القيام بجرد حساب مع الأحداث التاريخية المفصلية المتأخرة في عصرنا، وفحص ادعاءات تشكيل الإعلام الواقع؟ أليس مشروعاً بل ومطلوباً إعادة النظر بالقناعة المتفشية بأن ما يظهر على الشاشات هو ما يحصل فعلا، في ظرفٍ تجري فيه أهم التغيرات بعيداً عن الشاشات، أو في مراحل لاحقة على الانشغال الإعلامي بقضيةٍ ما، والتفاعل معها. ويبدو حتى ما يظهر في الشاشات على درجات فاقعة التناقض والتقابل، كأن الإعلام يخلق واقعه الذي بالضرورة ليس هو "الواقع"، وكون المتفرج أمام مجموعة ادعاءات متباينةٍ عن "الواقع" تختلف، بحسب الشاشة التي يتابعها، سيقود، بالضرورة، إلى القناعة أن "الواقع" الموضوعي في مكان ما خارج الشاشة.

إن الحتمية الاعلامية اليوم فردية تتعلق بإدراك الفرد سطوة الاعلام وتأثيره في نفسه وعليها، أكثر من سطوة الاعلام وتأثيره على الواقع. والقناعة الراسخة بقوة الإعلام ناشئة من فحص أثره على الفرد، لا على الواقع، بمعناه الواسع العام والمادي غالباً. وإن التعويل المفرط على الإعلام بات تعبيراً واضحاً عن عجز في الفعل، واستسلام أمام واقع يتشكّل، فهنالك من لا يرى أثراً لأي مظاهرةٍ، إن لم تظهر في الشاشات، ولذلك، لا يمكنه التشكيك بالمظاهرات التي يقف أمامها مخرجون، يصوّرون بضع عشرات على أنهم آلاف مؤلّفة.

تنوء المقولات المتضخمة بتناقضاتها دوماً، والمجال مفتوح على تضارب واسع بين الصور التي تدّعي أنها الواقع، وهذه التناقضات ستدفع، مرة أخرى، الواقع الموضوعي لفرض سطوته، في حدود المتصلين به من دون شاشات. ويمكن القول، ببساطة، إن التعويل اليوم على الإعلام لتحقيق نصر في معركة تدلل كل معطياتها الموضوعية على الهزيمة، هو خيانة أو جهل أو غباء.

دلالات
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين