المعجم التاريخي للغة والنهضة العربية

09 ديسمبر 2018
+ الخط -
تأسس عام 1919 أول مجمع عربي للغة العربية، في دمشق إبّان دولة فيصل بن الحسين، وترأسه الإصلاحي محمد كرد علي، ولاحقاً أنشئ مجمع علمي للغة العربية في عمّان عام 1924، وشاركت في تأسيسه نخبة عربية من النهضويين العرب، منهم سعيد الكرمي ورشيد بقدونس وخير الدين الزركلي، وكانوا أعضاء في مجمع دمشق العلمي. ولاحقاً، تأسس مجمع القاهرة في 1932، ثم مجمع بغداد عام 1947، وتوالت المؤسسات والمجامع. وهناك اليوم مبادرات وهيئات ومجالس عديدة تعنى باللغة العربية، في مقدمتها مؤسسة معجم الدوحة  التاريخي للغة العربية، والذي سوف يُطلق مرحلة الإنجاز الأولى له غداً الاثنين.
غاية هذا الحديث القول إن اللغة كانت مسألة عربية، شكّلت جزءاً كبيراً من عناية رجال النهضة العربية، أواخر العهد العثماني، والعروبيين، ومعهم الإحيائيون الإسلاميون الذين اشتركوا في تلك العناية زمن الاستقلال العربي، وكان هناك أمراء مستنيرون، لقيت اللغة عندهم الاهتمام نفسه. واليوم ترفع الدوحة نصاب اللغة العربية، لتكون مسألتها جوهر حديث التجديد والإصلاح وإحياء الهوية العربية، في مقابل هويات الإقليم القومية الصاعدة.
وكان رجال النهضة العرب يسيرون على خطى رجال التنوير في الغرب، فالنهوض باللغة لا تقوم به إلا الأمم الحيّة، والمدركة قيمة اللغة والذاكرة، والمعاجم اللغوية جهد عربي قديم، أبدع به علماء، أمثال الرازي والزبيدي وابن منظور وغيرهم، وهنا يُحسب للبنان في الزمن المعاصر اهتمامه بالمعجم والقاموس العربي والغربي. ويعد قاموس أكسفورد أكبر المعاجم العالمية وأهمها، والذي لا يعتبر أطول قاموس في العالم، فقاموس اللغة الهولندية الذي لديه أهداف قاموس أكسفورد الإنكليزي نفسها هو الأطول، واستغرق ضعف الوقت لإكماله. وهناك قاموس الأخوين جريم الألمانيين الذي بدأ العمل عليه في عام 1838 واكتمل في 1961. وهناك جهد في إيطاليا لأول قاموس أوروبي، تمّ إصداره في 1612، وتبعه أول طبعة قاموس الأكاديمية الفرنسية الذي يرجع تاريخه منذ 1694.أما الإسبان فبدأوا السباق عام 1780، وأتمّوا قاموسهم الذي صدر عن الأكاديمية الملكية الإسبانية. ومعنى هذا أن العناية باللغة تزامنت مع ولوج الدول زمن الثورة العلمية والتنوير والصناعة، هي دول ناهضة آنذاك، فالمعرفة قوة، وأحد سبل الهيمنة العالمية اليوم، كما يرى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو.

ولا يمكن فصل المعرفة عن عناصر القوة الأخرى للدولة، لا بل هي إحدى أهم مؤشرات التأثير والحضور للدول. وبالعودة إلى قاموس أكسفورد، لم تكن للجامعة علاقة به، إذ نهضت بالفكرة مجموعة صغيرة من المثقفين في لندن، وكانت في الأصل مشروع "جمعية لغوية"، فكّر به ريتشارد تشينيفيكس ترينش، الفقيه اللغوي حفيد الشاعر صمويل تايلور. وكان أول محرّر لمعجم أكسفورد الذي ضمّت الطبعة الثانية منه 59 مليون كلمة. وفي 1933، نشرت جامعة أكسفورد القاموس، لكن اللغة ظلت تتطوّر، وبدأت احتمالات التجديد وخياراتها، فعيّن عام 1957 محرّر جديد بعمر الثالثة والثمانين، هو روبرت بيرتشفيلد، ثم سافر القاموس إلى الولايات المتحدة وكندا لحوسبته. وبحلول عام 1989، حقق مشروع قاموس أكسفورد الإنكليزي الجديد أهدافه الأساسية، وبعمل المحرّرين على الإنترنت، نجح في الجمع بين النص الأصلي وتكملة بيرتشفيلد وما أضيف لاحقاً، ومعنى هذا أن عمل المحرّرين لم ينته بطبعة أولى أو ثانية أو أخيرة وصلت إلى عشرين مجلداً مفتوحة على الإضافة.
تذكّرنا هذه المقدمة الطويلة عن رحلة المعاجم بما سمعناه قبل نحو عامين في الدوحة، عند افتتاح أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، الحرم الدائم للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومعهد الدوحة للأبحاث ودراسة السياسات، ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية. سمعنا شرحا موجزا عن المعجم، وهو مؤسسة رديفة للمركز العربي، أطلقت فكرتها في 25 مايو/ أيار 2013، ومنذ ذلك اليوم والعمل متواصل في مؤسسة المعجم التي ضمّت كفاءات عربية من مختلف الدول.
يطلق المعجم غداً الاثنين منجزه المعرفي الكبير، وهو أحد المشاريع الكبرى التي يشرف عليها المفكر العربي، عزمي بشارة، وهو منجز يُعد سبقاً معرفياً لدولة قطر، في سبيل توثيق اللّفظ العربي وتأريخ تطوره، وسيتم إطلاق المرحلة الأولى الممتدّة من أقدم نص عربي مُوثَّق إلى نصوص عام 200 للهجرة، وهي تشتمل على قرابة مئة ألف مدخل معجمي، جرى توثيقها بالعودة إلى الأصول اللغوية والنقوش والمعاجم.
المعجم حالة نهوض للمعرفة العربية، ومنجز لقطر المعرفة والثقافة، والتي تنهض اليوم لتحقق مرتبة متقدمة في التعليم والمعرفة الإنسانية. وهي تتقدم كذلك في الإصلاحات وفي البناء الوطني والعناية بالإنسان ومعارفه، وعنوان ذلك الاهتمام ما يجتمع فيها اليوم من نخب عربية وكفاءات تجعل من هذا البلد، الصغير حجماً، بلداً مؤثراً وفاعلاً في المشهد العالمي، يصنع تقدّمه بوصفة داخلية عربية أصيلة.
دلالات
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.