المعارضة التركية وقصور إسطنبول التاريخية

28 مارس 2019
+ الخط -
ليس جديداً أن يستخدم طرف انتخابي ما يراه سلبيات في الطرف الآخر في دعايته الانتخابية وهذا من روح الديمقراطية التي تعتمدها كثير من الدول الأجنبية والمتحضرة، وتشهد تركيا مع نهاية مارس/آذار الجاري انتخابات بلدية تتنافس فيها الأحزاب التركية تنافساً كبيراً، وصل إلى حدّ التصريحات الاستفزازية.

استيقظت منطقة الفاتح في إسطنبول قبل أيام على لافتة انتخابية للمرشحة المعارضة إلاي أقصوي، المنتسبة لحزب الجيد الذي أُنشئ قبل فترة وجيزة، تقول السيدة أقصوي في لافتتها الانتخابية إنها لن تمنح الإذن لبيع قصور إسطنبول التاريخية (شبه جزيرة إسطنبول التاريخية) إلى دولة قطر، متهمة بذلك حزب العدالة والتنمية الحاكم ببيع القصور العثمانية التاريخية لقطر، حسب زعمها.

ماهي قصور إسطنبول؟

تشتهر إسطنبول منذ فتحها على يد السلطان محمد الفاتح بكونها مدينة حيوية وجاذبة للأثرياء والسلاطين وكبار القوم، لذلك من البديهي أن تخلّف الحقبة العثمانية عشرات القصور في مناطق حيوية ومهمة في إسطنبول، خاصة على جانبي مضيق البوسفور الذي يفصل بين شطري إسطنبول الآسيوي والأوربي.

وقد تكلمت عدة مصادر مختصة وإعلامية عن الإقبال الكبير مؤخراً على شراء القصور التاريخية وغير التاريخية على طرفي البوسفور، وقد كان النصيب الأكبر للمستثمرين العرب والقطريين بشكل أساسي وذلك لأسباب عديدة، تختلف عن الخطاب الاستفزازي الذي تحدثته عنه المعارضة التركية وكأنّ حكومة بلادهم تقوم ببيع التاريخ والتراث بثمن بخس.

بحسب الموقع الرسمي لشركة الفنار العقارية إحدى أكبر شركات التسويق والاستشارات العقارية في تركيا فإنّ عدد القصور على جانبي البوسفور يقدّر بحوالي 600 قصر، وهي قصور فاخرة وثمينة جداً وخاصة الواقعة بين حيي بوغازتشي وحي السلطان محمد الفاتح الراقيين.

تتراوح أسعار هذه القصور الفاخرة بين 4 إلى 90 مليون دولار أمريكي، أي أنها متفاوتة القيمة وتختلف أسعارها وليست كلها في سوية واحدة من الأهمية والجاذبية.

وفي السياق نفسه وبحسب المصدر ذاته فإنّ عدد القصور المعروضة للبيع لا يتجاوز 50 قصراً من أصل 600 وليست كلها ذات طابع تاريخي وتراثي.

في هذا الخصوص بالذات أكدت شركة الفنار العقارية وعدة شركات وخبراء عقاريين آخرين تواصلت معهم أنّ الحكومة التركية تفروض شروطاً على المشترين للقصور التاريخية، فهم يحتاجون إلى أذونات خاصة لإجراء أي تعديل أو ترميم أو إضافة داخل القصر حتى بعد شرائه، ومما يجدر الإشارة إليه أنّ تركيا تتدخل حتى في ألوان الطلاء إذا أراد المشتري طلاء القصر.

لذلك لا يمكننا القول أن ما يحصل هو بيع للتاريخ والتراث كما تروج الدعايات الانتخابية المعارضة -وهذا حقها كون البلاد تشهد انتخابات بلدية- إنما هي شكل من أشكال الخصخصة لبعض مؤسسات الدولة التركية للاستفادة من الاستثمارات الأجنبية.

فإنّ النقطة الجاذبة في هذه القصور أنها مراكز استقطاب سياحي وعندما تتحول إدارتها إلى عدة مستثمرين أجانب فهذا يخلق فرصاً جديدة للتنافس على استقطاب السياح والمستثمرين، أكثر من فرص الاستقطاب عندما تكون جميع هذه القصور تحت إشراف حكومي.

ثمّ إنّ القانون التركي لم يكن يمنع بيع هذه القصور لأنها معروضة للبيع ومسعّرة بشكل طبيعي، وليس الأمر حادثاً أو جديداً.

وبشكل عام فإنّ تركيا تعتمد على التمويل الأجنبي للعديد من مشاريعها الكبرى، كمطار اسطنبول وقناة اسطنبول الجديدة التي تقوم على مبدأ تسليم المؤسسة لجهات خاصة لبنائها وإعدادها ثم تشغيلها لمدة معينة والاستفادة منها، ثم تسليمها للحكومة التركية، وهذا النوع من الخصخصة جلب لتركيا الكثير من المنافع على الصعيد الاقتصادي مباشرة أو على أصعدة ذات صلة كزيادة الإقبال السياحي أو توسع الاستثمارات التجارية في تركيا وغير ذلك.

قد يسأل سائل ما سبب الإقبال الأجنبي على شراء القصور في تركيا؟

فالجواب بكل بساطة إضافة إلى الأهمية الاستثمارية لهذه القصور، وموقعها السياحي المميز، فإن هبوط سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأخرى أعقبه قرار تركي بفرض تسعير العقارات في تركيا بالليرة التركية حصراً، مما ساهم بخفض أسعار القصور -كونها كانت مسعرة بالدولار الأمريكي- بنسبة تتراوح بين 20 إلى 40% وهذا هو السبب المباشر لزيادة الإقبال على شراء القصور في إسطنبول وتركيا عموماً من قبل أثرياء أجانب.

ومن البديهي أيضاً أنّ شراء قصر في إسطنبول سيكون فرصة مثالية للحصول على الجنسية التركية بسبب ارتفاع أسعارها بشكل كبير جداً يفوق الحد الأدنى لسعر العقار المرشح للجنسية التركية والذي هو ربع مليون دولار فقط، أي أنّ بيع أرخص قصرعلى البوسفور قد يمنح الجنسية التركية لـ16 رجل أعمال أجنبي، وهذا بحد ذاته انتصار للسياسة الاقتصادية التركية المبنية على دفع المستثمرين الأجانب للاستقرار في تركيا ومنحهم امتيازات وتسهيلات تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في رفع الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد التركي ومدّه بموارد استثمارية أمنة ودائمة، مما يزيد من طمأنينة تركيا بعدم الحاجة للتمويل من صندوق النقد الدولي أو الاقتراض منه لاحقاً خاصةً بعد أن قامت الحكومة التركية في 2013 بإيفاء جميع الديون المترتبة عليها لصندوق النقد بل وقامت بإقراضه.

إنّ هذه القصور تعود ملكيتها إلى السلاطين العثمانيين والتجار والباشوات المعروفين في فترة الخلافة العثمانية، كما كان يسكن المنطقة الكثير من أثرياء العالم حتى من خارج تركيا، وبعض الأطباء والحكماء المعروفين، وحتى هذا التاريخ فالكثير من أثرياء العالم يميلون لتملك القصور في إسطنبول وخاصة المطلة منها على البوسفور.
0D06433F-B23F-4A09-95F8-B116DFFBEB69
أحمد الصالح

معلم كيمياء... مدون وكاتب مقالات، ولدت في مدينة الرقة 1991 وغادرتها عام 2015 متوجها إلى إسطنبول.. أكتب في السياسة وعن الثورة السورية، ومقتطفات أخرى، لي كتابات سياسية ناقدة وأخرى تحليلية وبعض المقتطفات الساخرة حاليا.يقول: لا أحب أن أخطو إلى الأمام خطوة وأترك خلفي شخصا يحتاجني.