المشهد سوري وبيروت الخشبة (3)

05 مارس 2014
عروض متواصلة و"تياترو" مغلق
+ الخط -
بدون عسكر أو قذائف وقبل زمن الغارات الجويّة التي يُفرغ أزيزها الروحَ قبل الشوارع، وقبيل عودة المفخخات إلى ذَرْعِ الهواجس وتَوُسِّدِ الكوابيس؛ أُغلق "مسرح بيروت"، أحد أقدم مسارح المدينة، في نهاية 2011. العام الذي بدأ فيه عدد من المسرحيين السوريين بالتفكير بالقدوم إلى لبنان - وإن مؤقتاً - حاملين بعضاً من خشبتهم.

صار الصليب أثقل، وزادت الأوضاع الأمنية غير المستقرة في المسامير المضروبة فيه، خصوصاً للهاربين الذين كانوا يتوسمون في نجوم السماء "الشقيقة" شيئاً من الخلاص.

المخرج المسرحي السوري، لؤي، الذي يستخدم هنا اسماً مستعاراً "على نحو مؤقت" على حد تعبيره؛ لا ينكر "الخوف" الذي لَمَسَهُ زملاؤه اللبنانيون لدى بعض المسرحيين السوريين الذين يحاولون الاجتهاد في لبنان؛ بل يؤكد أنّه خوف مرتبط بـ"العرض ذاته"، وبـ"الفريق الذي يقدّمه".

لكنّ شغله الشاغل اليوم يتجاوز هذا الأمر، ليس إلى "لوجستيات العرض التي تغيّرت" عن تلك التي اعتادها في سوريا، أو إلى "الميزانية" التي تضاعفت حكماً هنا، أو إلى ضرورة أن تكون المسرحيّة بـ"الفصحى" كما كان مقرراً في دمشق، أو بـ"العاميّة" كما قد تصبح في بيروت؛ بل إلى سؤال "المسرح الآن"، الأكبر برأيه.

"السؤال الذي بدأت أفكر فيه منذ بداية الثورة في سوريا، وتأكدت من جوابه في بيروت، هو: "هل مِن داع لأن أعمل أنا شخصياً في المسرح أم لا؟". وبعد أخذه نفَساً أخيراً من سيجارته، استطرد قائلاً وهو في طريقه إلى إشعال أخرى على الفور: "للأسف الوضع هنا لا يشجعك عملياً على تقديم عروض مسرحية، لكن هذا ليس ذنب الجمهور كما قد يتراءى لنا عادة".

ويكشف لؤي، الذي أخرج أول عمل مسرحي له في 2012، عن بعض الهواجس التي كانت تنتابه أخيراً، حول مقولات "أخذ المسرح إلى الجمهور" بدل انتظاره أن يأتي إليه، مروراً بـ"عدم إدراك الناس لأهميته"، وليس انتهاء بسيل الانتقادات "التثاقفيّة" التي اعتاد الفنانون توجيهها إلى "جمهورهم".

النظرة التي كانت في رأسه عن البلد (سوريا)، قبل 2011، بوصفه مجرد "مستنقع"، وعن "الجمهور" كجمعٍ بشري "خانع وضعيف ومذلول وفاقد للطموح"؛ تغيرتْ كليّاً بعد بدء "الثورة". يقول لؤي: "ما زلت أريد أن آخذ المسرح إلى الجمهور، إنّما هذه المرة لأكتشف ذاتي أنا، ولأرى فيما إذا كان هذا الفن الذي أحب وأدعي أنّه يستحق أن يستمر جديراً بذلك فعلاً". ويضيف بثبات: "أنا من كان غبياً، لا مجتمعي، الذي بفضله أقول اليوم إنني استعدت كرامتي، وأعرف أنّ هؤلاء الناس لم يكونوا يفعلون فقط الأكل والشرب، وإنّما امتلكوا في لحظات كثيرة هواجسي ذاتها".

"المسرح ملاذاً؟".. عن هذا يجيب هاشم عدنان، كاتب "جنة جنة جنة"، أحد آخر عروض فرقة "زقاق" اللبنانية، والذي لاقى صدى طيباً لدى عرضه في بيروت أخيراً: "نعم، واليوم أكثر من أي وقت مضى". وبالنظر في عينيه، يتأكد لنا أنّها ليست إجابة حاضرة يرتجلها المسرحي اللبناني الشاب جزافاً.

ينافح عدنان عن مقولة أنّ المسرح يعرض خيار "المساواة" على الناس وهي مقولة ثوريّة، إذ "يساوي بين الجمهور، ومَن هم على الخشبة، فالجمهور دائماً جزء من العرض"، وهو فن يتعاطى معنا جميعاً كـ"مواطنين يعيشون في ذات الفضاء وذات التجربة".

ويضيف: "هل هي خشبة مسرح فقط تلك التي يرغب الجمهور في اعتلائها، أم خشبة الشارع؟ هل هي المقارّ الحكومية، والفضاءات العامة؟ أم تراها مساحاتنا الخاصّة التي تقتحمها السلطة عبر تفاصيل معيّنة؟". وتومي لميا أبي عازر برأسها موافقة زميلها في "زقاق"، الفرقة اللبنانية التي تعدّ واحدة من المبادرات المسرحية الأكثر انخراطاً في النشاطات المجتمعية محلياً.

من جهته، يسارع صاحب مشروع "كيت، كيت" الذي ينظّم ورشات كتابة القصص الشخصية للاجئين السوريين، مضر الحجّي، إلى سرد "أمثلة عملية" مصداقاً لكلام زملائه، مستدلاً بالأشكال الفنيّة التي بدأت تأخذها المظاهرات في إحدى مراحل الثورة في سوريا، و"المشاهد التي كان يمثّلها الناس، ويتفرج عليها الناس، والتي كانت تُعاد، فيعود الناس ليتفرجوا عليها مجدداً".

يقول الحجّي متأثراً: "هل من الحماسة الفارغة في شيء القول إنّ هذا يذكّرنا بنشأة المسرح من الطقس الديني اليوناني؟"، ويضيف: "ماذا أيضاً عن حالات النشاط المسرحي في المخيّمات والمناطق المحررة؟". مطالباً إيّانا بعدم تناسي أنّ جُلّ مَن يعمل في القطاع المسرحي اليوم يقوم بذلك للمرة الأولى في حياته، مستخلصاً من ذلك أننا أمام "فاعلين ثقافيين جدد" ينفّذون "انقلاباً" على "المكرّسين القدامى"، وهذا بحد ذاته "شكل من أشكال الثورة".

 في واحد من بواكير العروض المسرحيّة التي تطرقت للأحداث في سوريا، واستضافتها بيروت، تلقّى الفنانان المسرحيان اللبنانيان روجيه عسّاف وحنان الحاج علي، تهديدات بـ"هدّ" مسرح "دوّار الشمس" على رؤوس الحاضرين، في حال أصرّا على المضي قدماً في العمل الذي مهّدا له سبل الخروج إلى الهواء. ما استتبع اتخاذ الجيش اللبناني تدابير أمنية غير اعتيادية قرب المكان. لكنّ العرض استمر، وتلته عروض أخرى على الخشبة نفسها.

ولعل مسرح "زهرة سوريا" لن يُذكر في التاريخ على أنّه من أوائل المسارح البيروتية فقط؛ بل ربما يحمل سَمِيٌّ له، في قادم الأيام، لقب أحدثها أيضاً.

دلالات
المساهمون