المسكوت عنه في حادثة الأقصى

01 يونيو 2015

أحمد هليل في الأقصى محاطا بالحماية (22 مايو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
تابع المسؤولون الأردنيون باهتمام شديد ما حدث مع قاضي القضاة، الدكتور أحمد هليل، ورفيقه وزير الأوقاف في المسجد الأقصى، عندما واجهوا هتافات عدد كبير من الحضور، ومُنع هليل من إكمال خطبة الجمعة بصورة عادية، وكان المشهد الأكثر قسوة من ذلك كله إعادة خطيب الأقصى الخطبة والصلاة، بعدما أتمّ هليل صلاة الجمعة! 
اقتصر التداول الإعلامي للحادثة على الإدانة والتنديد، فيما حاولت السلطة الوطنية الفلسطينية إلصاقها بحزب التحرير الإسلامي ونشطائه، بينما وصلت رسائل إلى الأردن، من تحت الطاولة، بتحميل حماس مسؤولية التجييش والتحريض ضد زيارة المسؤوليْن الأردنيين.
المقارنة التي طغت في الكواليس والأحاديث الخفية في أوساط السياسيين والمسؤولين هي بين ما حدث مع الوفدين، الأردني والتركي، قبل أسبوع، برئاسة وزير الأوقاف التركي، في المسجد الأقصى، إذ لقي ترحيباً شديداً من المصلّين.
الملاحظة الأساسية والجوهرية، في الكواليس الخفية، تتمثّل برفض تفسير السلطة الفلسطينية، أو بربط ما حدث في حزب التحرير، فالمسؤولون الأردنيون يدركون تماماً أنّ هذا الحزب لا يمتلك مثل هذه القوة في الحشد في المسجد الأقصى، كما أنّ مشاهد الفيديو الكاملة لما حصل تؤكّد أنّ أعداداً كبيرة كانت تهتف ضد هليل، ما يعني أنّ المسألة تتعدى "التحرير" و"حماس" معاً.
وتؤكد الرواية الرسمية غير المعلنة، التي تسربت عبر شهادة الوفد الأردني، أنّ هنالك تواطئاً من السلطة الفلسطينية ومن موظّفي الأوقاف الذين، من الواضح، أنّهم لم يكونوا يرحّبون بهذه الزيارة، فقطعوا السماعات عن الخطبة، فيما أعاد خطيب المسجد الخطبة والصلاة، متحدثاً عن علماء السلاطين، في إشارة إلى الوفد الأردني.
لم تكن مثل هذه الحيثيات لتجعل مثل هذه الحادثة تمر مرور الكرام، سواء لدى الشارع الأردني أو المسؤولين، فدفعت بأسئلة أكثر دقّة ووضوحاً في مناقشة ما حدث، ودلالاته وخلاصاته. هل هو مرتبط بزيارة الوفد الأردني والموقف من موضوع "التطبيع" والخلاف حول زيارة الأقصى فقط، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تمّ الترحيب بالوفد التركي ونبذ الوفد الأردني؟! أم هو مرتبط بالموقف من النظام الأردني بصورة عامة؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لم يستطع الأردن الخروج من إطار "النظرية التآمرية" في منظور الشارع الفلسطيني، على الرغم من أنّ الرعاية القانونية والسياسية على المقدسات له، وعلى الرغم من أنّ وزارة الأوقاف الأردنية ودائرة قاضي القضاة هما المسؤولتان عن رواتب موظفي المسجد الأقصى والأوقاف ووظائفهم هناك، كما أنّ دائرة قاضي القضاة في القدس تابعة للدائرة في الأردن؟
للتذكير، كان الملك عبد الله الثاني قد وقّع مع الرئيس محمود عباس، قبل قرابة عامين، مذكرة تعطي الملك حق الوصاية على المقدسات الدينية في القدس، وفسّرها المسؤولون في البلدين بأنّها لحماية هذه المقدسات والقدس من التوغل الإسرائيلي وعمليات التهويد، لما يمتلك الأردن من قدرة أكبر، أدبياً وسياسياً ودبلوماسياً، للوقوف في وجه إسرائيل.
 
كانت تلك الاتفاقية بمثابة اعتراف رسمي فلسطيني بدور أردني رمزي وسياسي وقانوني في القدس، لكنّها، عملياً، أكّدت ما هو على أرض الواقع، من إشراف أردني على المقدسات، ودفع الرواتب وصيانة واهتمام كبير، إلاّ أنّ حادثة الأقصى أعادت إحداث تساؤلات عميقة عن جدوى الدور الأردني وطبيعة الحساسية في العلاقات الأردنية - الفلسطينية، ومدى قبول الأشقاء الفلسطينيين أي صيغة أو دور أردني في القدس، والأخطر من هذا وذاك تلك "الصورة النمطية" التي لبست الدور الأردني في عيون نسبة كبيرة من الفلسطينيين، بوصفه مؤامرة مستمرة على القضية الفلسطينية.
بعد هذه الحادثة، ارتفعت الأصوات في تفسير ما حدث، هل تتحمل مسؤوليته السلطة الفلسطينية، أم الصورة النمطية، أم الرسالة الإعلامية الأردنية الهشّة والضعيفة والعاجزة التي لم تستطع تطوير وسائلها وأدواتها وقدراتها للوصول إلى الفلسطينيين، لتعريفهم، على الأقل، بأهمية الدور الأردني اليوم لحماية القدس، وفقاً لهؤلاء المسؤولين؟
أحد السياسيين البارزين في الأردن، على النقيض من الروايات السائدة، يحيل ما حدث إلى تراجع كبير في الاهتمام الأردني بشؤون الضفة الغربية والقدس، ويضيف "تاريخياً، كان النظام الأردني يمتلك ثقلاً كبيراً في أوساط العائلات الكبرى في القدس والخليل ونابلس. أما اليوم فهنالك جيل جديد كبير لا يعرف الأردن، ولا علاقة له بالنظام، وقيادات تتبنى المنظور المؤامراتي نفسه، فيما لا يبذل المسؤولون الأردنيون جهوداً تذكر في تصحيح ذلك، وإعادة بناء العلاقات على أسس صحيحة".
غداة حادثة الأقصى والأجواء الساخنة في النقاش حولها ما تزال قائمة، جاءت قضية أخرى لـ "تصب الزيت على النار"، وتتمثّل بما أشيع عن رفض جبريل الرجوب، رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني، التصويت للأمير علي في انتخابات الفيفا، ما أحدث ردود فعل هائلة في وسائل التواصل الاجتماعي تجاهه، وحاول بعضهم أن يستثمرها لتعميم الموقف تجاه السلطة الفلسطينية والعلاقات بين الطرفين.
يتمثل الهاجس الأكبر اليوم بضرورة ألا تنسحب هذه التداعيات والاستحقاقات والسجالات على المعادلة الداخلية الأردنية، وما يرتبط بها من ثنائية ديمغرافية ممقوتة بين الشرق أردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني، خصوصاً مع نمو الاتجاهات اليمينية في أحشاء المجتمع، وفي ظل الأزمة مع الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) التي تمثّل الجسم السياسي الأكبر والأكثر تمثيلاً للأردنيين من أصل فلسطيني.
بالنتيجة؛ ضربت حادثة الأقصى الحساسيات بعمق، وأثارت الأسئلة المكبوتة والمكتومة، وتجاوزت نقاشاتها المعادلة الأردنية - الفلسطينية إلى المعادلة الداخلية، وهي تدفع بالفعل بالنخب المثقفة والسياسيين والطبقة الوسطى المعتدلة والتيارات الوطنية الوسطية إلى تجاوز حالة الإنكار، وبحث إشكاليات العلاقة بأبعادها المختلفة، والخروج من المجاملات أو الخطابات العصابية السائدة في الأوساط الاجتماعية.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.