"لم تكن فاطمة المرنيسي مثقفة عاديّة: لا أصلًا ولا مسارًا فكريًّا. كانت مثقفة حدوديّة: وَجاهتُها الفاسِيّة، بتقاليدها وطقوسها، لم تمنعها من السّير في الحدود بين المفارقات: بين المرأة والرجل، بين الأغنياء والفقراء، بين الشرق والغرب، بين المعرفة والنضال. ولقد كان لها من سعة المعارف وقوّة الحدس ما أتاح لها أن ترى هذه الحدود وراء الظواهر والنصوص". جاء هذا على لسان الطاهر لبيب في كتاب "شهرزاد المغربية: شهادات ودراسات عن فاطمة المرنيسي"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وبمشاركة مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، من إعداد وتحرير ياسين عدنان. يأتي الكتاب في أربعينية المرنيسي، تكريماً لها، ومحاولة لرصد مسارها الثقافي والتوقف عند محطاته الأساسية، ومساءلة منجزها الفكري بإضاءة أهمّ أعمالها في كتاب سيحتاجه قرّاء فاطمة المرنيسي، وخصوصاً من الأجيال الجديدة، للاستئناس أكثر فأكثر في عوالم شهرزاد المغربية.
في مساهمته، والتي جاءت بعنوان "غابت امرأةٌ وبقيت المرأة!"، يرى الطاهر لبيب بأن بعض التصنيف قد يتعجّل في ضمّ المرنيسي إلى "النسوية"، كما عُرفتْ في الغرب، أو كما عُرفت لواحقُها الشرقيّة. لذا لا بد هنا من التوضيح، فقد جعلت فاطمة المرنيسي من المرأة مركزَ اهتمامها ولكنها نظرت إليها وإلى أوضاعها بعيون مغربية، عربيّة، إسلاميّة. لم تكرّر ما ساد من مقولات النسوية الفرنسية والأميركيّة التي كانت تعرفها جيّداً، كما لم تردّد مقولات غير مفهومة أو مقلوبة لماركس وفرويد، كما كانت تفعل، في سبعينيات القرن الماضي، بعضُ "الفمينيستْ" العربيات.
في سبيل التقديم
قدم الكتاب الشاعر المغربي ياسين عدنان وتحدث عن كيفية تداخل الفكر في كتاباتها بالأدب، والبحث الأكاديمي بالتخييل. فهي متعدّدة بطبيعتها، لذلك كانت دوماً ترفض الاختزال. كما أن النسائيات العربيات اللواتي أثارهنّ بشكل خاص اشتغالها الجريء على قضايا المرأة منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، سرعان ما تنكّرَتْ لهنّ، أو على الأقل فاجأتهنّ وهي تغيِّر الوجهة باتجاه المجتمع المدني. "لستُ مناضلة نسوية لأنشغل بالمرأة فقط"، تقول المرنيسي، "لقد انخرطت في دينامية المجتمع المدني لأنه فضاء لا تقف فيه المرأة بمواجهة الرجل، بل يعملان معاً ويتعاونان". ولتجسيد هذا الحلم، أطلقَتْ قافلة مدنية أرغمت من خلالها عدداً من المثقفين والفنانين والفاعلين المدنيين على النزول من أبراجهم العاجية للتفاعل مع ساكنة القرى والبوادي في المغرب العميق، المنسي، والمهمّش. فأعطت بذلك لعدد من مثقفي اليسار الذين كانوا يصنّفونها كبورجوازية درساً في الطريقة التي يمكن بها للمثقف العضوي، فعلا لا شعارا، أن يمارس نضاله الثقافي ويضطلع بدوره داخل مجتمعه. ومثلما أدهشت شهرزاد شهريار، مارست شهرزاد المغربية غوايتها علينا جميعاً. إذ ظلت تفاجئ قرّاءها باستمرار وتدهشهم وتأتيهم دوماً من حيث لا يحتسبون. بعد عودتها من أميركا، توقّع منها الأكاديميون المزيد من الأبحاث "الرصينة" ففاجأتهم بمحكيات الطفولة، وبانحيازها للأدب. توقعت منها مناضلات الحركة النسائية فضح العقلية الذكورية وعمقها المرجعي في الثقافة العربية الإسلامية، فإذا بها تكتب لتشرح لهن كيف كانت المرأة عزيزةً رفيعة القدر في تاريخ الإسلام منذ "نساء النبي" حتى السلطانات المنسيات. يساريو تلك الأيام توقّعوا منها المزيد من نقد التراث الديني، فإذا بها تدافع عنه بطريقتها، هي الفقيهة المتصوّفة خريجة جامعة القرويين. توقّع منها الغرب أن تزوّده بالمزيد من حكايات الحريم الشرقي وأن تواصل تشريح البنى الذكورية في العالم العربي الإسلامي، فإذا بها تنقلب عليه لتفضح الحريم الغربي الأكثر قسوة على المرأة واختزالاً لها ونيلاً من إنسانيتها. "إنها شهرزاد معاصرة، تعرف كيف تستعمل عقلها، لا جسدها، لمواجهة الاختزال، عنف الخطاب، والقتل الرمزي".
سر بسير زمانك تسير
في الكتاب ايضاً، تناول الباحث والأكاديمي خالد الحروب علاقة الصداقة بينه وبين الراحلة المرنيسي، واصفاً أحد لقاءاته الأولى بفاطمة: "تتلقفنا بالترحاب والعناق وسيل الأسئلة عن الصحة والناس والأحباب. نفقه بعض ما نفقه من الدارجة "الفاسية" تدرج سريعة على لسان فاطمة كطفل شارد على شاطئ "الوداية" يركض في كل الاتجاهات. نمشي جميعاً. هي تتهادى أمامنا كالريح على مدخل "حيّ القناصلة"في سفح "الوداية" "القناصلة" مفصول، بأسىً، عن "الوداية" بشارع أسفلتي سمج يحاذي البحر". تسير فاطمة المرنيسي بقامتها الطويلة وتنشر ابتسامتها في المكان. تلقي جسدها العريض المتفاخر تحت تنويعة الملابس المغربية الريفية بألوانها الصارخة في ضيق الأزقة فتتسع الأزقة وتنفرج الطرقات. تتلاحق رنات القلائد والحلوق والخلاخيل التي تلبسها، كأنما ملكات المغرب يستيقظن من قديم الزمان ويقمن الآن يستحممن في عين الشمس وعين البحر... وفي عيوننا كلنا. لحظتها تختال أندلسيات حسان صرن ينقرن الدفوف على أنغام الوتر الزريابي الخامس. يتمايل الناس مع تمايل مشيتها، تروح الأزقة وتجيء كأنما تدندن لحناً جاء من القدم القديم. تقول فاطمة:"سر بسير زمانك تسير". نسير خلفها، لكن بسيرٍ غير سير زماننا.
هنا السحر يصبح الحقيقة الوحيدة. فاطمة تطير تطير، ونحن من خلفها تدهمنا شهوة الطيران: نشعر بخفة أقدامنا على الأرض. نكاد نطير خلفها، يمسنا السحر نحن أيضاً. عبد المعطي، ابن القدس القديمة، يقسم لها أنه الآن في القدس ذاتها، فهنا وهناك ذات طعم السحر، وذات عبق الأزقة وألغازها وأولادها. يقول لها: أأنا في "باب مغاربة" القدس أم هنا أنا. تضحك فاطمة وترد: "أنت مسحور"!
تلويحة وداع
استذكرت الشيخة مي آل خليفة زيارة المرنيسي الأولى للبحرين لتكرس بحضورها الأول بداية لمهرجان سنوي بدأ بقافلتها المدنية وعلى مدى عشرة أيام حافلة في مارس/ آذار 2005 حين جاءت بفريقها الرائع بين فنان وشاعر وناشر وكتبيّة وسجين سابق ومروِّج للثقافة ومختصّة بعلم الكمبيوتر، فقبل الجميع أدركَتْ فاطمة أن وسائل التواصل الاجتماعي هي التي تصل إلى أكبر عدد من المتلقّين وعبرهم تنتشر الأفكار. "التقيتُها لأول مرة في برلين صيف 2004 وكان أن أقنعتني فاطمة بضرورة المشاركة في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت من العام ذاته. آنذاك كانت الدول العربية ضيف شرف، وكانت الثقافة الرسمية غائبة رغم دفعها لحصة المشاركة! (يومها كانت الثقافة قطاعاً في وزارة الإعلام) وعبر المركز الأهلي تواجدَتِ البحرين وزار جناحها كبار الكتّاب والمفكرين. جاء صادق العظم وجاءت فاطمة المرنيسي وكثيرٌ غيرهم حلُّو ضيوفاً على المركز فيما بعد. آمنَتْ فاطمة بالثقافة وآمنت بالجمال وبالحب. وفي زيارتها الثانية للمركز مارس/ آذار 2010 تكلمت عن ستين مفردة في لغتنا الجميلة عن الحب الذي غُيِّب في زمننا وحلَّ محله الإرهاب تعريفاً بديننا وهويتنا! في بيتها التقيتُ بمختلف الجنسيات من أوروبا وأميركا ومن الشرق الأقصى، وكان ما يوحِّدُهم ويجمعهم إيمانهم بدور المجتمع المدني في تغيير العالم. وعلى الدّوام، كان اتصالها وحماسها كبيرين لمشاريع المركز وتعميم التجربة في مواقع أخرى من الوطن الكبير. منها تعلمنا الكثير ومن كتابها الحريم السياسي لبّينا دعوتها للعودة إلى أمهات الكتب لنقرأها دون أحكام مسبقة ولنشكل استنتاجاتنا الخاصة. فاطمة التي لم ينقطع تواصلي معها منذ ذلك الحين، في سنة الأزمة العربية 2011 أو ما يُسمّى بالربيع العربي، كانت تريد أن يبرز صوت المرأة ودورها لتصحيح ما اختلَّ في الغرب عن صورة العرب! "لفاطمة المرنيسي موقع في القلب والذاكرة، وسيبقى ما دام القلب ينبض بالحب والحماس الذي لم يخْبُ يوماً بعينيها!".
فاطمة المرنيسي إذا أفصحتْ
عُنيَتْ فاطمة المرنيسي، طوال حياتها الثقافية والأكاديمية، بحال المرأة في المجتمعات التقليديّة المحكومة بنسق قيميّ شبه ثابت لا يقبل الحراك الحقيقي، ويعزف عن التغيير، فكلّ عمل ينبغي أن يتطابق مع تقليد راسخ أو نصّ دينيّ موروث؛ فالبحث عن المطابقة في المجتمعات التقليدية أهمّ من التحوّلات التاريخية. وقد ظهرت صورة المرأة معقّدة في تلك "المجتمعات التأثيمية"، فمرّة يريدها الرجل رماداً، ومرّة جمراً، يخفي كينونتها الإنسانيّة وراء حجب الإهمال والاستبعاد، لكنّه يستدعيها وقت الرغبة والمتعة، والعلاقة بين الاثنين محاطة بقلق مستفحل لم ينته إلى حلّ مناسب إلى الآن. وأضاف الباحث عبدالله إبراهيم "من الطبيعيّ أن تتلاعب هذه الأمواج في البنية الذهنيّة للمرأة، وتجعلها ترى ذاتها منعكسة في مرايا متعددة. لفتني اهتمام المرنيسي بهذا الموضوع مبكراً، فشَرعتُ في قراءة كتبها حالما ظهرت ترجماتها الأولى في سورية ولبنان خلال ثمانينيات القرن العشرين، وبقيت على صلة بأفكارها حتى وفاتها. ومعلوم بأن المرنيسي عكفت على نقد بنية المجتمعات التقليدية، ومنها العربية والإسلامية، ونقد الخطاب الداعم لمقوّماتها، فتوزّع عملها بين بحث استقصائيّ مُحكم عُني بإعادة رسم صورة المرأة في التاريخ، وتمثيل ثقافيّ لدورها في مجتمع تقليديّ، واشتبك كلّ من البحث والتمثيل معاً بهدف تعويم صورة المرأة في ثنايا التاريخ والواقع".
تشريح الذات والحريم
يستعيد الكاتب محمد اشويكة علاقته بفكر وكتابات فاطمة المرنيسي منذ كتابها المهم "الحريم السياسي: النبي والنساء" الذي نشرته بفرنسا سنة 1987، والذي لم يكن مجرد كتاب أو بحث عاد بالنظر إلى عنوانه الحساس، وفرادة موضوعه، وعمق القضايا التي طرحها في مجتمع عربي لم ينفك من الحريم إلى اليوم. استلهمت المرنيسي شخصية شهرزاد لتحكي باسمها، وتتكلم من خلالها، لا سيما أنها البطلة التي قاومت الموت بالحكي، وجعلت الزمن طوع حكايتها، فما كان له إلا أن استسلم بدوره لذكائها ودهائها، وأن يتواطأ مع وضعها فيصير رخواً وطَيّعاً كساعة "سلڤادور دالي" السوريالية. لقد حان لها أن ترحل، وذلك بعد أن فضلت التكتم على مرضها لأنها كانت تحدس بأن قناصي الأهداف في اللحظات الأخيرة يتربصون بها فتصدت لهم مُفَضّلَة أن يكون لرحيلها طعم تأملي يضع الكتاب قبل "المَكْتَابْ" (المُقَدَّر)، والمنجز قبل وبعد دفن الشخص.
اقرأ أيضا
حياةٌ على أجنحة الحلم
من الحب ما أحيا وقتل العرب
في مساهمته، والتي جاءت بعنوان "غابت امرأةٌ وبقيت المرأة!"، يرى الطاهر لبيب بأن بعض التصنيف قد يتعجّل في ضمّ المرنيسي إلى "النسوية"، كما عُرفتْ في الغرب، أو كما عُرفت لواحقُها الشرقيّة. لذا لا بد هنا من التوضيح، فقد جعلت فاطمة المرنيسي من المرأة مركزَ اهتمامها ولكنها نظرت إليها وإلى أوضاعها بعيون مغربية، عربيّة، إسلاميّة. لم تكرّر ما ساد من مقولات النسوية الفرنسية والأميركيّة التي كانت تعرفها جيّداً، كما لم تردّد مقولات غير مفهومة أو مقلوبة لماركس وفرويد، كما كانت تفعل، في سبعينيات القرن الماضي، بعضُ "الفمينيستْ" العربيات.
في سبيل التقديم
قدم الكتاب الشاعر المغربي ياسين عدنان وتحدث عن كيفية تداخل الفكر في كتاباتها بالأدب، والبحث الأكاديمي بالتخييل. فهي متعدّدة بطبيعتها، لذلك كانت دوماً ترفض الاختزال. كما أن النسائيات العربيات اللواتي أثارهنّ بشكل خاص اشتغالها الجريء على قضايا المرأة منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، سرعان ما تنكّرَتْ لهنّ، أو على الأقل فاجأتهنّ وهي تغيِّر الوجهة باتجاه المجتمع المدني. "لستُ مناضلة نسوية لأنشغل بالمرأة فقط"، تقول المرنيسي، "لقد انخرطت في دينامية المجتمع المدني لأنه فضاء لا تقف فيه المرأة بمواجهة الرجل، بل يعملان معاً ويتعاونان". ولتجسيد هذا الحلم، أطلقَتْ قافلة مدنية أرغمت من خلالها عدداً من المثقفين والفنانين والفاعلين المدنيين على النزول من أبراجهم العاجية للتفاعل مع ساكنة القرى والبوادي في المغرب العميق، المنسي، والمهمّش. فأعطت بذلك لعدد من مثقفي اليسار الذين كانوا يصنّفونها كبورجوازية درساً في الطريقة التي يمكن بها للمثقف العضوي، فعلا لا شعارا، أن يمارس نضاله الثقافي ويضطلع بدوره داخل مجتمعه. ومثلما أدهشت شهرزاد شهريار، مارست شهرزاد المغربية غوايتها علينا جميعاً. إذ ظلت تفاجئ قرّاءها باستمرار وتدهشهم وتأتيهم دوماً من حيث لا يحتسبون. بعد عودتها من أميركا، توقّع منها الأكاديميون المزيد من الأبحاث "الرصينة" ففاجأتهم بمحكيات الطفولة، وبانحيازها للأدب. توقعت منها مناضلات الحركة النسائية فضح العقلية الذكورية وعمقها المرجعي في الثقافة العربية الإسلامية، فإذا بها تكتب لتشرح لهن كيف كانت المرأة عزيزةً رفيعة القدر في تاريخ الإسلام منذ "نساء النبي" حتى السلطانات المنسيات. يساريو تلك الأيام توقّعوا منها المزيد من نقد التراث الديني، فإذا بها تدافع عنه بطريقتها، هي الفقيهة المتصوّفة خريجة جامعة القرويين. توقّع منها الغرب أن تزوّده بالمزيد من حكايات الحريم الشرقي وأن تواصل تشريح البنى الذكورية في العالم العربي الإسلامي، فإذا بها تنقلب عليه لتفضح الحريم الغربي الأكثر قسوة على المرأة واختزالاً لها ونيلاً من إنسانيتها. "إنها شهرزاد معاصرة، تعرف كيف تستعمل عقلها، لا جسدها، لمواجهة الاختزال، عنف الخطاب، والقتل الرمزي".
سر بسير زمانك تسير
في الكتاب ايضاً، تناول الباحث والأكاديمي خالد الحروب علاقة الصداقة بينه وبين الراحلة المرنيسي، واصفاً أحد لقاءاته الأولى بفاطمة: "تتلقفنا بالترحاب والعناق وسيل الأسئلة عن الصحة والناس والأحباب. نفقه بعض ما نفقه من الدارجة "الفاسية" تدرج سريعة على لسان فاطمة كطفل شارد على شاطئ "الوداية" يركض في كل الاتجاهات. نمشي جميعاً. هي تتهادى أمامنا كالريح على مدخل "حيّ القناصلة"في سفح "الوداية" "القناصلة" مفصول، بأسىً، عن "الوداية" بشارع أسفلتي سمج يحاذي البحر". تسير فاطمة المرنيسي بقامتها الطويلة وتنشر ابتسامتها في المكان. تلقي جسدها العريض المتفاخر تحت تنويعة الملابس المغربية الريفية بألوانها الصارخة في ضيق الأزقة فتتسع الأزقة وتنفرج الطرقات. تتلاحق رنات القلائد والحلوق والخلاخيل التي تلبسها، كأنما ملكات المغرب يستيقظن من قديم الزمان ويقمن الآن يستحممن في عين الشمس وعين البحر... وفي عيوننا كلنا. لحظتها تختال أندلسيات حسان صرن ينقرن الدفوف على أنغام الوتر الزريابي الخامس. يتمايل الناس مع تمايل مشيتها، تروح الأزقة وتجيء كأنما تدندن لحناً جاء من القدم القديم. تقول فاطمة:"سر بسير زمانك تسير". نسير خلفها، لكن بسيرٍ غير سير زماننا.
هنا السحر يصبح الحقيقة الوحيدة. فاطمة تطير تطير، ونحن من خلفها تدهمنا شهوة الطيران: نشعر بخفة أقدامنا على الأرض. نكاد نطير خلفها، يمسنا السحر نحن أيضاً. عبد المعطي، ابن القدس القديمة، يقسم لها أنه الآن في القدس ذاتها، فهنا وهناك ذات طعم السحر، وذات عبق الأزقة وألغازها وأولادها. يقول لها: أأنا في "باب مغاربة" القدس أم هنا أنا. تضحك فاطمة وترد: "أنت مسحور"!
تلويحة وداع
استذكرت الشيخة مي آل خليفة زيارة المرنيسي الأولى للبحرين لتكرس بحضورها الأول بداية لمهرجان سنوي بدأ بقافلتها المدنية وعلى مدى عشرة أيام حافلة في مارس/ آذار 2005 حين جاءت بفريقها الرائع بين فنان وشاعر وناشر وكتبيّة وسجين سابق ومروِّج للثقافة ومختصّة بعلم الكمبيوتر، فقبل الجميع أدركَتْ فاطمة أن وسائل التواصل الاجتماعي هي التي تصل إلى أكبر عدد من المتلقّين وعبرهم تنتشر الأفكار. "التقيتُها لأول مرة في برلين صيف 2004 وكان أن أقنعتني فاطمة بضرورة المشاركة في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت من العام ذاته. آنذاك كانت الدول العربية ضيف شرف، وكانت الثقافة الرسمية غائبة رغم دفعها لحصة المشاركة! (يومها كانت الثقافة قطاعاً في وزارة الإعلام) وعبر المركز الأهلي تواجدَتِ البحرين وزار جناحها كبار الكتّاب والمفكرين. جاء صادق العظم وجاءت فاطمة المرنيسي وكثيرٌ غيرهم حلُّو ضيوفاً على المركز فيما بعد. آمنَتْ فاطمة بالثقافة وآمنت بالجمال وبالحب. وفي زيارتها الثانية للمركز مارس/ آذار 2010 تكلمت عن ستين مفردة في لغتنا الجميلة عن الحب الذي غُيِّب في زمننا وحلَّ محله الإرهاب تعريفاً بديننا وهويتنا! في بيتها التقيتُ بمختلف الجنسيات من أوروبا وأميركا ومن الشرق الأقصى، وكان ما يوحِّدُهم ويجمعهم إيمانهم بدور المجتمع المدني في تغيير العالم. وعلى الدّوام، كان اتصالها وحماسها كبيرين لمشاريع المركز وتعميم التجربة في مواقع أخرى من الوطن الكبير. منها تعلمنا الكثير ومن كتابها الحريم السياسي لبّينا دعوتها للعودة إلى أمهات الكتب لنقرأها دون أحكام مسبقة ولنشكل استنتاجاتنا الخاصة. فاطمة التي لم ينقطع تواصلي معها منذ ذلك الحين، في سنة الأزمة العربية 2011 أو ما يُسمّى بالربيع العربي، كانت تريد أن يبرز صوت المرأة ودورها لتصحيح ما اختلَّ في الغرب عن صورة العرب! "لفاطمة المرنيسي موقع في القلب والذاكرة، وسيبقى ما دام القلب ينبض بالحب والحماس الذي لم يخْبُ يوماً بعينيها!".
فاطمة المرنيسي إذا أفصحتْ
عُنيَتْ فاطمة المرنيسي، طوال حياتها الثقافية والأكاديمية، بحال المرأة في المجتمعات التقليديّة المحكومة بنسق قيميّ شبه ثابت لا يقبل الحراك الحقيقي، ويعزف عن التغيير، فكلّ عمل ينبغي أن يتطابق مع تقليد راسخ أو نصّ دينيّ موروث؛ فالبحث عن المطابقة في المجتمعات التقليدية أهمّ من التحوّلات التاريخية. وقد ظهرت صورة المرأة معقّدة في تلك "المجتمعات التأثيمية"، فمرّة يريدها الرجل رماداً، ومرّة جمراً، يخفي كينونتها الإنسانيّة وراء حجب الإهمال والاستبعاد، لكنّه يستدعيها وقت الرغبة والمتعة، والعلاقة بين الاثنين محاطة بقلق مستفحل لم ينته إلى حلّ مناسب إلى الآن. وأضاف الباحث عبدالله إبراهيم "من الطبيعيّ أن تتلاعب هذه الأمواج في البنية الذهنيّة للمرأة، وتجعلها ترى ذاتها منعكسة في مرايا متعددة. لفتني اهتمام المرنيسي بهذا الموضوع مبكراً، فشَرعتُ في قراءة كتبها حالما ظهرت ترجماتها الأولى في سورية ولبنان خلال ثمانينيات القرن العشرين، وبقيت على صلة بأفكارها حتى وفاتها. ومعلوم بأن المرنيسي عكفت على نقد بنية المجتمعات التقليدية، ومنها العربية والإسلامية، ونقد الخطاب الداعم لمقوّماتها، فتوزّع عملها بين بحث استقصائيّ مُحكم عُني بإعادة رسم صورة المرأة في التاريخ، وتمثيل ثقافيّ لدورها في مجتمع تقليديّ، واشتبك كلّ من البحث والتمثيل معاً بهدف تعويم صورة المرأة في ثنايا التاريخ والواقع".
تشريح الذات والحريم
يستعيد الكاتب محمد اشويكة علاقته بفكر وكتابات فاطمة المرنيسي منذ كتابها المهم "الحريم السياسي: النبي والنساء" الذي نشرته بفرنسا سنة 1987، والذي لم يكن مجرد كتاب أو بحث عاد بالنظر إلى عنوانه الحساس، وفرادة موضوعه، وعمق القضايا التي طرحها في مجتمع عربي لم ينفك من الحريم إلى اليوم. استلهمت المرنيسي شخصية شهرزاد لتحكي باسمها، وتتكلم من خلالها، لا سيما أنها البطلة التي قاومت الموت بالحكي، وجعلت الزمن طوع حكايتها، فما كان له إلا أن استسلم بدوره لذكائها ودهائها، وأن يتواطأ مع وضعها فيصير رخواً وطَيّعاً كساعة "سلڤادور دالي" السوريالية. لقد حان لها أن ترحل، وذلك بعد أن فضلت التكتم على مرضها لأنها كانت تحدس بأن قناصي الأهداف في اللحظات الأخيرة يتربصون بها فتصدت لهم مُفَضّلَة أن يكون لرحيلها طعم تأملي يضع الكتاب قبل "المَكْتَابْ" (المُقَدَّر)، والمنجز قبل وبعد دفن الشخص.
اقرأ أيضا
حياةٌ على أجنحة الحلم
من الحب ما أحيا وقتل العرب