31 أكتوبر 2024
المرعبُ في قضية خاشقجي
هناك جانب مرعب في قضية الصحافي والكاتب السعودي جمال خاشقجي. فالرجل، بصورة أو بأخرى، ابن النظام السعودي، ولم تُعرف له، من قبل، مواقف راديكالية إزاء هذا النظام وسياساته الداخلية والإقليمية. وطوال عمله في كبريات الصحف السعودية، لم تخرج كتاباته عن الأسس التي تنهض عليها السياسة الإعلامية السعودية، بأذرعها الكثيرة على امتداد الجغرافيا العربية. وحتى حينما أخذ مسافة معينة من العهد الجديد الذي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان، فإن ذلك لم يتجاوز الخطوط الحمراء لهذا للنظام، خصوصا فيما يتعلق بأسس مشروعيته السياسية.
إنه لأمر مرعب حقا، فإذا كان الحال هكذا مع من يقضي جزءا من حياته يناصر هذا النظام أو ذاك، ويدافع عن خياراته في محافل الإعلام والثقافة والسياسة، فما بالك بمن يُعتبر معارضا ومناوئا. هل إبداءُ منسوبٍ معيّن من النقد إزاء بعض السياسات كافٍ لتنقلب الدوائر بهذا الشكل الدراماتيكي؟ ألا تؤكد واقعة خاشقجي البنية التقليدية العميقة للسياسة العربية التي لا تعرف منطقةً وسطى بين الولاء والمعارضة الكامِلين؟ أليس هذا كافيا للقول إن الارتجاج الذي أحدثه الربيع العربي لم يغير شيئا من هذه البنية، ولا في آليات اشتغالها؟
يقدّم لنا التاريخ السياسي العربي المعاصر حالاتٍ كثيرة، لم تتورّع فيها الأنظمة الحاكمة عن البطش بمعارضيها، وإسكات أصواتهم إلى الأبد. وإذا كان من غير الإنساني تبرير عشرات التصفيات التي قادتها هذه الأنظمة طيلة النصف الثاني من القرن الفائت، فإنه يمكن ''فهمها'' باعتبارها كانت ضمن مناخ سياسي عام، يتغذّى على سطوة الاستبداد، وغياب ثقافة سياسية حديثة، ورأي عام مؤثر.
ولكن أن يحدث ذلك الآن، في ظل ما خلفه الربيع العربي من متغيرات، فذلك يستوجب التوقف. تعكس الحالة السعودية حقيقةً عربيةً صارخةَ تتعلق بمنظومةٍ سياسيةٍ محافظة، تأبى أي تغيير يمكن أن يفضي إلى عملية دمقرطة، كيفما كانت حدودها. ويجب أن نعترف للنخب العربية الحاكمة ببراعتها في التسويف والانحناء للعواصف، وبيع الأوهام لشعوبها حينما يقتضي الأمر ذلك. وإذا ما بدا أنها تقدّم تنازلات سياسية أو اجتماعية في بعض الأحيان، فإن ذلك لا يكون إلا تكتيكا مدروسا تمليه منعرجاتٌ غير متوقعة في المشهدين، الإقليمي والدولي.
ليست قوى الثورة المضادة مستعدة الآن للتساهل مع أي ديناميةٍ جديدةٍ، تهدف إلى بعث الروح في الحراك الشعبي العربي، لا سيما بعد أن قطعت أشواطا بعيدة في استعادة زمام الأمور وخلط الأوراق في المنطقة. وإذا صحّ ما يتردّد عن مساعٍ كان يبذلها خاشقجي قبل اختفائه من أجل تأسيس منتدىً عربي للديمقراطية، فذلك ربما يكشف مساحةً من الدلالات الكامنة خلف لغز اختفائه أو مقتله، فالرجل لم يكن معارضا شرسا للنظام السعودي، ولم يكن يقود حزبا أو حركة احتجاجية قوية، بل كان كاتبا تتّسم مقالاته بنفسٍ اعتدالي واضح، وإن حملت، في الآونة الأخيرة، مقاديرَ من النقد اللاذع لسياسات محمد بن سلمان الداخلية والإقليمية.
ينطوي اختفاءُ خاشقجي بهذا الإخراج الاستخباراتي الفج على رسالة واضحة لمن يهمه الأمر. لن تسمح هذه القوى بتكرار ما حدث مع بداية سنة 2011 تحت أي ظرف، وستعمل على إسكات كل الأصوات المعارضة لهذا التوجه، أيا كان موقعها، سواء في السياسة أو الصحافة أو الثقافة أو العمل الأهلي. وفي اختيار الرياض قنصليتها في إسطنبول لاختطاف خاشقجي وتصفيته أبرز العناوين الدالّة في هذه الرسالة.
وإذا كانت هناك أصوات في الغرب تواصل المطالبة بالكشف عن حقيقة ما جرى لخاشقجي، فإن حدّتها قد تخفت مع مرور الوقت، ضمن حملة تعويم إعلامية ممنهجة للقضية، تفرضها تجاذبات المصالح الاقتصادية والجيوسياسية الكبرى التي تمتد من الرياض إلى واشنطن، عبر عدد من عواصم الغرب.
في الوقت الذي كان يعتقد فيه كثيرون أن الربيع العربي، وإنْ لم يُفض إلى تغييراتٍ سياسيةٍ كبيرة، إلا أنه على الأقل فرض على الأنظمة التخلي، ولو عن جزءٍ من ممارساتها القمعية المعلومة، جاءت واقعة خاشقجي لتؤكد الحقيقة المرّة لنظامٍ رسميٍّ عربيٍّ يصر على البقاء استثناءً في عالم تتسارع فيه المتغيرات.
إنه لأمر مرعب حقا، فإذا كان الحال هكذا مع من يقضي جزءا من حياته يناصر هذا النظام أو ذاك، ويدافع عن خياراته في محافل الإعلام والثقافة والسياسة، فما بالك بمن يُعتبر معارضا ومناوئا. هل إبداءُ منسوبٍ معيّن من النقد إزاء بعض السياسات كافٍ لتنقلب الدوائر بهذا الشكل الدراماتيكي؟ ألا تؤكد واقعة خاشقجي البنية التقليدية العميقة للسياسة العربية التي لا تعرف منطقةً وسطى بين الولاء والمعارضة الكامِلين؟ أليس هذا كافيا للقول إن الارتجاج الذي أحدثه الربيع العربي لم يغير شيئا من هذه البنية، ولا في آليات اشتغالها؟
يقدّم لنا التاريخ السياسي العربي المعاصر حالاتٍ كثيرة، لم تتورّع فيها الأنظمة الحاكمة عن البطش بمعارضيها، وإسكات أصواتهم إلى الأبد. وإذا كان من غير الإنساني تبرير عشرات التصفيات التي قادتها هذه الأنظمة طيلة النصف الثاني من القرن الفائت، فإنه يمكن ''فهمها'' باعتبارها كانت ضمن مناخ سياسي عام، يتغذّى على سطوة الاستبداد، وغياب ثقافة سياسية حديثة، ورأي عام مؤثر.
ولكن أن يحدث ذلك الآن، في ظل ما خلفه الربيع العربي من متغيرات، فذلك يستوجب التوقف. تعكس الحالة السعودية حقيقةً عربيةً صارخةَ تتعلق بمنظومةٍ سياسيةٍ محافظة، تأبى أي تغيير يمكن أن يفضي إلى عملية دمقرطة، كيفما كانت حدودها. ويجب أن نعترف للنخب العربية الحاكمة ببراعتها في التسويف والانحناء للعواصف، وبيع الأوهام لشعوبها حينما يقتضي الأمر ذلك. وإذا ما بدا أنها تقدّم تنازلات سياسية أو اجتماعية في بعض الأحيان، فإن ذلك لا يكون إلا تكتيكا مدروسا تمليه منعرجاتٌ غير متوقعة في المشهدين، الإقليمي والدولي.
ليست قوى الثورة المضادة مستعدة الآن للتساهل مع أي ديناميةٍ جديدةٍ، تهدف إلى بعث الروح في الحراك الشعبي العربي، لا سيما بعد أن قطعت أشواطا بعيدة في استعادة زمام الأمور وخلط الأوراق في المنطقة. وإذا صحّ ما يتردّد عن مساعٍ كان يبذلها خاشقجي قبل اختفائه من أجل تأسيس منتدىً عربي للديمقراطية، فذلك ربما يكشف مساحةً من الدلالات الكامنة خلف لغز اختفائه أو مقتله، فالرجل لم يكن معارضا شرسا للنظام السعودي، ولم يكن يقود حزبا أو حركة احتجاجية قوية، بل كان كاتبا تتّسم مقالاته بنفسٍ اعتدالي واضح، وإن حملت، في الآونة الأخيرة، مقاديرَ من النقد اللاذع لسياسات محمد بن سلمان الداخلية والإقليمية.
ينطوي اختفاءُ خاشقجي بهذا الإخراج الاستخباراتي الفج على رسالة واضحة لمن يهمه الأمر. لن تسمح هذه القوى بتكرار ما حدث مع بداية سنة 2011 تحت أي ظرف، وستعمل على إسكات كل الأصوات المعارضة لهذا التوجه، أيا كان موقعها، سواء في السياسة أو الصحافة أو الثقافة أو العمل الأهلي. وفي اختيار الرياض قنصليتها في إسطنبول لاختطاف خاشقجي وتصفيته أبرز العناوين الدالّة في هذه الرسالة.
وإذا كانت هناك أصوات في الغرب تواصل المطالبة بالكشف عن حقيقة ما جرى لخاشقجي، فإن حدّتها قد تخفت مع مرور الوقت، ضمن حملة تعويم إعلامية ممنهجة للقضية، تفرضها تجاذبات المصالح الاقتصادية والجيوسياسية الكبرى التي تمتد من الرياض إلى واشنطن، عبر عدد من عواصم الغرب.
في الوقت الذي كان يعتقد فيه كثيرون أن الربيع العربي، وإنْ لم يُفض إلى تغييراتٍ سياسيةٍ كبيرة، إلا أنه على الأقل فرض على الأنظمة التخلي، ولو عن جزءٍ من ممارساتها القمعية المعلومة، جاءت واقعة خاشقجي لتؤكد الحقيقة المرّة لنظامٍ رسميٍّ عربيٍّ يصر على البقاء استثناءً في عالم تتسارع فيه المتغيرات.