المرحلة من دون مزاعم أخلاقية

14 سبتمبر 2014

الادعاءات الأخلاقية في المجال السياسي مكلفة وثقيلة (Getty)

+ الخط -

في الأزمات والمراحل المفصلية، من المتوقع أن يسارع الخصوم إلى اتهامك بتناقض زعمك الأخلاقي وسلوكك السياسي، ومن المفهوم أن يعمد المحللون والمراقبون إلى إظهار هذا التناقض، ومن المرجّح أن يتخلى عنك مناصرون وموالون كثيرون عند اقتناعهم بوجود هذا التناقض. أما غير المتوقع ولا المفهوم ولا المرجح فهو أن تنجح في مواصلة التغني بزعمك الأخلاقي المتناقض مع سلوكك السياسي، مهاجماً تناقض الخصوم، ومفنداً تعليق المراقبين والمحللين، ومتيقناً من ولاء مناصريك ودعمهم.

الادعاءات الأخلاقية في المجال السياسي مكلفة وثقيلة، وينوء بحملها الواقع شديد التقلب والتغير، والأهم أنها غير قابلة للتعامل الجزئي أو التكتيكي، خصوصاً إن كانت الأزمات طويلة مستمرة. والادعاء الأخلاقي، بطبيعته، لا يمكن أن يستخدم باتجاه واحد. لا يفلح استخدامك له ضد الخصوم وإسقاطه عن نفسك تحت أي ذريعة. ويمكن أن يظل زعم التفوق الأخلاقي على الخصوم فعالاً، ولفترات طويلة وبوابة لكسب المناصرين والأتباع، إلا أن اقتراف أي سلوك، أو اتخاذ أي قرار يخالف هذا الزعم يشرع الواقع على تغيرات عدة، خصوصاً إن كان القرار أو السلوك هو ما يمارسه خصومك، وتعتبره مبرر تفوقك الأخلاقي عليهم.

والسؤال هنا، ماذا سيفعل الموالون والمناصرون لفاعل سياسي، انطلاقاً من قناعتهم بتفوقه الأخلاقي، حين يتضح التناقض بين حراكه السياسي ومزاعمه بالتفوق الأخلاقي على خصومه؟ الواقع مفتوح على احتمالات عدة، ربما أهمها إحجام قطاع واسع من المناصرين والموالين مع قطاعاتٍ من العامة عن الشأن السياسي والفاعلين فيه، نتيجة القناعة بأن هذا الشأن لا قيم أخلاقية فيه، ويستوي فيه كل الفاعلين. ومن كان يبني موالاته لجهةٍ، أو طرفٍ، وفق معيار أخلاقي، سينسحب إلى موقع محايد، فمعياره لا يجد في الحالة أي مادة للقياس والمقارنة.

ولكن، لا تفضي القناعة بأن الشأن السياسي لا مكان فيه لتفوق أخلاقي إلى انسحابٍ محايد دوماً، بل يمكن أن تسفر عن إعادة تموضع للمناصرين والموالين، إثر قناعةٍ بأن الشأن السياسي، بطبيعته، لا مكان فيه للتفوق الأخلاقي أَصلاً، وبالتالي، يعيدون تحديد مناصرتهم وفق محدداتٍ أخرى، منها الانتماء الطائفي أو الديني أو العرقي، أو العصبية القبليّة أو الجهوية أو غيرها من المحددات التي يرى فيها المناصرون أن الفاعل السياسي يمثّلهم أو يشبههم ربما. أو سيتكرس الفاعل السياسي مدافعاً عن المصالح، وراعياً لها، من دون أي زعم أخلاقي.

في كل الحالات، يبدو المجال مفتوحاً لإعادة تعريف السياسة على مستوى غير المشتغلين بها، فئات المناصرين والمتعاطفين أو العامة، ليتم النظر إليها كإدارة مصالح فئات، من دون محددات أخلاقية، مع تبرير استخدام المزاعم الأخلاقية مادة لتحقيق المكاسب، أو التعامل مع المحدد الأخلاقي بنسبيةٍ عالية مائعة، لا تفضي إلا إلى إلغائه. وبعد هذا كله، سيغدو مضحكاً أن يحاول طرفٌ إحياء مزاعم التفوق الأخلاقي، بعد أن تخلى عنها جميعها، وأعاد تعريف نفسه كراعي مصالح، وهذا يعني أن لا فضل لزعيم طائفةٍ على ديكتاتور، كلاهما سيان.

ولا شك أن هنالك شواهد كثيرة سافرة على هذه الحالة عربياً، والكل يبدو مستعداً، اليوم، للتحالف مع الشيطان والشر لتحقيق أهدافه، حتى لو كان الشيطان والشر إسرائيل وأميركا، من دون إدراك أن تعاوناً مع الشيطان ليس أمراً عابراً، بل سيجعل كل الذين تحالفوا، ويطمحون للتحالف، على مستوى واحد مع المتحالفين الجدد. اليوم، هناك من قال الموت لأميركا ويتعاون معها، وهناك من تباكى على بقاء الجولان محتلاً، وهو اليوم يهرول إلى إسرائيل، وهنالك من تضعه أميركا على قوائم إرهابها، ويغازلها بمحاربة الإرهاب. وهناك أغبياء يستغبون مناصريهم ومواليهم، ويظنون أن هذا كله لن يؤثر في مزاعم تفوقهم الأخلاقي.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين