المرأة والهوية والذكورية.. "إنتِي أردنية عمّو؟"
ابتهال محادين
كثير من الصراخ والتحدي والفوضى في حلقة قناة دويتشة فيلة الألمانية بالعربية عن حقوق المرأة الأردنية، التي عرضت الأسبوع الماضي، وضجت بشأنها مواقع التواصل الاجتماعي. ومن الصعب جداً مشاهدة الحلقة بلا شعور عميق بالاستفزاز والصداع ونوبات القرف، ومن الأصعب مشاهدة الحلقة كاملة بلا توقف لالتقاط الأنفاس. دعوني لا أخوض في نقد السيرك الإعلامي والضوضاء والمنطق الدائري وسوء إدارة ما سمي تجنيا بالحوار. وعلى الرغم من صعوبة متابعة الحلقة، فإن ما رشح فيها من تعليقاتٍ فجّةٍ وهجوميةٍ وعنصرية، ومن بعد ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، يكشف الكثير عن تقاطع الذكورية مع القومية الأردنية المتعصبة، ويفسر جوانب كثيرة من واقع المرأة الأردنية الحالي.
ماذا يعني أن يطلب نائب سابق في البرلمان الأردني هوية فتاة تروي قصتها مع التحرّش؟ كيف نفهم تعليقه أن الأردنيات لا يتعرّضن حتى للتحرش، على الرغم من آراء رجال أردنيين داعية إلى تقييد المرأة أو حتى قتلها والتي سبقت تعليقه بدقائق؟ ما معنى أن يقال إن "المرأة الأردنية محترمة" في سياق الحديث عن العنف الأسري و"الحكي الفاظي"، وما معنى أن يُدّعى أن هذه الظاهرة زادت مع "الهجرة السورية الأخيرة والهجرة إلّي قبلها".
نجد نفسنا أوّلاً في مواجهة تعريف ضيق وإقليمي للمرأة الأردنية، فالقصد من سؤال مثل "إنتي أردنية عمو؟" أن المشتكية من التحرّش الجنسي لا يمكن أن تكون منتمية لتلك الفئة المحظية من النساء التي تحميها "أردنيتها" من التحرّش. ومع أن المتحدث استخدم مفردة "أردنيات" فإن تلك الفئة، نستنتج، لا تتطابق مع فئة "أردنيات" بالمعنى المطلق، أي حاملات الجنسية
الأردنية، إنما يعنى بها النساء من خلفية شرق- أردنية على وجه الحصر. من ثم، فإن كل النساء اللواتي لا يمتلكن "الأردنية" نفسها يمكن، لا بل من المتوقع، أن يتعرّضن للتحرش والعنف الأسري، وغير ذلك من "الحكي الفاظي". يعني ذلك أن الأنوثة الشرق- الأردنية هي الأنوثة المثالية التي تستحق الاحترام، "المرأة الأردنية محترمة"، (والحماية )"البنات الأردنيات في قانون يحميهن"(لأنهن مستودع الشرف المرتبط بالوطنية الأردنية) "إحنا عنا شرف وبلدنا محترمة"(ولأنهن يطبطبن على الذكورة الأردنية بعدم الإفصاح عما قد يتعرّضن له من تمييز أو تحرش أو عنف) "البنات الأردنيات مش هيك، ولا بيجن على الإذاعات".
ومع أن تعريف "الأردنية" هذا ضيق وإقليمي وعنصري، إلا أن الخطر لا يكمن فقط في ضيقه وإقليميته وعنصريته، بل يمتد إلى أبعد من ذلك، حيث أنه يضع المرأة الشرق- أردنية ضدا للمرأة "الأخرى" التي تعد أنوثتها مصدرا للمشكلات والتعقيدات والفضائح في الإعلام من النوع الذي ظهر في هذه الحلقة تحديدا، فهي التي تشتكي من التحرّش، وتتهم الشرطة بذلك، وهي التي تطالب بالجنسية لأبنائها كي تضعف السيادة الأردنية، وهي التي تدرب الفتيات على أساليب الدفاع عن النفس، ليهددن رجولة المتحرّشين. وقد تكون هذه المرأة الأخرى من أصول فلسطينية أو سورية أو عراقية، ومع أنها تتمتع بجنسية أردنية، فإن مواطنتها لا تزيل عنها وصمة "الآخر".
إذا هي المرأة ضد المرأة، وهو تحفيز للمرأة الشرق - أردنية للتماهي مع الذكورية والقومية الأردنية أولا، باعتبارها جزءا من هويتها. وثانيا لإيضاح الاختلاف بينها وبين تلك "الأخرى" ذات الأخلاق المشكوك بها. "عمرك 21 سنة وصرتي خايضة كل هالتجربة هاي" (والتي تعمل لتدمير سمعة المرأة الأردنية وسمعة البلد تباعا) "جاي تشوه صورة المرأة الأردنية". هو تجييش للمرأة الشرق- أردنية بقدر ما هو تعييب لتلك المرأة الأخرى، بتصنيفها على أنها فاقدة للشرف، مستدعية للتحرش والعنف الجنسي، مستبيحة للسيادة الأردنية.
لكن لنفترض لحظة أن المشتكية من التحرّش أبرزت هويتها، وأوضحت أنها تحمل اسم عائلة شرق - أردنية، ولنفترض، علاوة على ذلك، أنها سيدة محجبة متوسطة في العمر. هل من الممكن أن تمر شكاوى هذه السيدة بلا هجوم أو تنكر أو استهجان؟ قد تتعرّض في هذه الحالة لهجوم ذكوري مشابه في حدّته لما حصل، لكنه مختلف نوعا ما من ناحية تركيزه على تفاصيل أخرى. مثلا قد تواجَه بنكران التحرّش، كما حصل في الحلقة، من باب أن التحرش ليس من شيم الأردنيين، ولا من عادات المجتمع الأردني وتقاليده. وقد تواجه بمحاولة لإسكاتها وتهديدها من نوع "وين أبوكي عنك؟"، أو حتى بمحاولة لومها على وجودها في مكان معين في ساعة معينة. وقد تواجه بعد ذلك فضائح من ألوان أخرى، قد تعرّض سلامتها للخطر. وكما أن المرأة "الأخرى" متهمة بالخلاعة وما يشبه الخيانة، فإن المرأة الشرق-أردنية تتعرّض لنظرة دونية من تلك "الفئة الأخرى" تراها متخلفة عن ركب التقدم وغير متفتحة. وهذه أيضا، مع أن هذه المرأة تتمتع بمزايا لا تتوفر لغيرها، نظرة مرفوضة وإشكالية.
إذا، هناك تهميشٌ ذكوريٌّ عابر للفئات، فمجرد أنك امرأة ترفع صوتها ضد التمييز يجعلك
هدفا، لكنه تهميش يستغل خطاباتٍ معينة تختلف باختلاف موقع المرأة في المجتمع الذكوري الأردني. ولا أعني هنا المجتمع الشرق- أردني، بل المجتمع الأردني بكل أطيافه. وهنا المصيبة الأكبر: تتمترس المرأة ضد المرأة، وتستخدم لإسكات الأخرى، وتهدد بها مثالا على ما سيحصل لها هي أيضا، إن انتقدت الوضع القائم، ويضرب بها المثل على السكوت عن حقها، وتشويه سمعة تلك "الأخرى" فيما تمنح ثمنا لسكوتها فتات الحقوق أو القبول الاجتماعي لأنوثتها المثالية. ويعمق هذا التفاوض مع الذكورية الفروق بين النساء، وهي فروق صنعها المجتمع الذكوري الإقليمي على الطرفين، لتحقيق أغراض سياسية تستخدم فيها المرأة رمزا لقومية ضيقة شوفينية، تعرف نفسها بإقصاء الآخر أو إلغائه. يقصد من التفرقة في هذا المشهد تغييب المرأة عنصرا فعالا وتفتيت احتمالية العمل النسوي الموحد، وعزل النساء، كل في خندق فريقها، حسب يانصيب الأصول والمنابت، بما يعطل تشكيل وعي عام بالتمييز الذي تتعرّض له كل النساء، وإن اتخذ أشكالا متفاوتة.
لعل النقطة المضيئة الوحيدة في "الحوار" المذكور أن التضامن النسوي تم ذكره باعتباره استراتيجية لمواجهة الذكورية القومية الأردنية. وهو في الواقع الحل الأوحد، لكي تحصل المرأة الأردنية على حقوقها كاملة. ولتشكيل وعيٍ نسوي قادر على مناهضة هذه الخطابات الذكورية من أي جهة كانت، على النساء الأردنيات المنتميات لتلك الفئة المحظية (الشرق - أردنية) ذات الأنوثة المثالية رفع الصوت عاليا بنقد وضع المرأة ككل، وبتقديم شهاداتهن على ما يتعرّضن له هن أيضا من تمييز أو عنف، وبالتضامن خصيصا مع الأخريات اللواتي، يتم إسكاتهن، لأنهن لا يحملن أسماء عائلات شرق أردنية. فقط عندما تخرج النساء عن صمتهن، ويسعين إلى التضامن مع بعضهن، بغض النظر عن أصولهن، سيتمكنّ من تغيير الواقع الذي يعشن كلهن في ظله. ولعل هذا هو التهديد الأكبر للذكورية الأردنية التي لا تملّ من الصراخ فوق أصواتنا: "أنا إللي بمثّل الأردن". .. الأردنيات يمثّلن الأردن.
نجد نفسنا أوّلاً في مواجهة تعريف ضيق وإقليمي للمرأة الأردنية، فالقصد من سؤال مثل "إنتي أردنية عمو؟" أن المشتكية من التحرّش الجنسي لا يمكن أن تكون منتمية لتلك الفئة المحظية من النساء التي تحميها "أردنيتها" من التحرّش. ومع أن المتحدث استخدم مفردة "أردنيات" فإن تلك الفئة، نستنتج، لا تتطابق مع فئة "أردنيات" بالمعنى المطلق، أي حاملات الجنسية
ومع أن تعريف "الأردنية" هذا ضيق وإقليمي وعنصري، إلا أن الخطر لا يكمن فقط في ضيقه وإقليميته وعنصريته، بل يمتد إلى أبعد من ذلك، حيث أنه يضع المرأة الشرق- أردنية ضدا للمرأة "الأخرى" التي تعد أنوثتها مصدرا للمشكلات والتعقيدات والفضائح في الإعلام من النوع الذي ظهر في هذه الحلقة تحديدا، فهي التي تشتكي من التحرّش، وتتهم الشرطة بذلك، وهي التي تطالب بالجنسية لأبنائها كي تضعف السيادة الأردنية، وهي التي تدرب الفتيات على أساليب الدفاع عن النفس، ليهددن رجولة المتحرّشين. وقد تكون هذه المرأة الأخرى من أصول فلسطينية أو سورية أو عراقية، ومع أنها تتمتع بجنسية أردنية، فإن مواطنتها لا تزيل عنها وصمة "الآخر".
إذا هي المرأة ضد المرأة، وهو تحفيز للمرأة الشرق - أردنية للتماهي مع الذكورية والقومية الأردنية أولا، باعتبارها جزءا من هويتها. وثانيا لإيضاح الاختلاف بينها وبين تلك "الأخرى" ذات الأخلاق المشكوك بها. "عمرك 21 سنة وصرتي خايضة كل هالتجربة هاي" (والتي تعمل لتدمير سمعة المرأة الأردنية وسمعة البلد تباعا) "جاي تشوه صورة المرأة الأردنية". هو تجييش للمرأة الشرق- أردنية بقدر ما هو تعييب لتلك المرأة الأخرى، بتصنيفها على أنها فاقدة للشرف، مستدعية للتحرش والعنف الجنسي، مستبيحة للسيادة الأردنية.
لكن لنفترض لحظة أن المشتكية من التحرّش أبرزت هويتها، وأوضحت أنها تحمل اسم عائلة شرق - أردنية، ولنفترض، علاوة على ذلك، أنها سيدة محجبة متوسطة في العمر. هل من الممكن أن تمر شكاوى هذه السيدة بلا هجوم أو تنكر أو استهجان؟ قد تتعرّض في هذه الحالة لهجوم ذكوري مشابه في حدّته لما حصل، لكنه مختلف نوعا ما من ناحية تركيزه على تفاصيل أخرى. مثلا قد تواجَه بنكران التحرّش، كما حصل في الحلقة، من باب أن التحرش ليس من شيم الأردنيين، ولا من عادات المجتمع الأردني وتقاليده. وقد تواجه بمحاولة لإسكاتها وتهديدها من نوع "وين أبوكي عنك؟"، أو حتى بمحاولة لومها على وجودها في مكان معين في ساعة معينة. وقد تواجه بعد ذلك فضائح من ألوان أخرى، قد تعرّض سلامتها للخطر. وكما أن المرأة "الأخرى" متهمة بالخلاعة وما يشبه الخيانة، فإن المرأة الشرق-أردنية تتعرّض لنظرة دونية من تلك "الفئة الأخرى" تراها متخلفة عن ركب التقدم وغير متفتحة. وهذه أيضا، مع أن هذه المرأة تتمتع بمزايا لا تتوفر لغيرها، نظرة مرفوضة وإشكالية.
إذا، هناك تهميشٌ ذكوريٌّ عابر للفئات، فمجرد أنك امرأة ترفع صوتها ضد التمييز يجعلك
لعل النقطة المضيئة الوحيدة في "الحوار" المذكور أن التضامن النسوي تم ذكره باعتباره استراتيجية لمواجهة الذكورية القومية الأردنية. وهو في الواقع الحل الأوحد، لكي تحصل المرأة الأردنية على حقوقها كاملة. ولتشكيل وعيٍ نسوي قادر على مناهضة هذه الخطابات الذكورية من أي جهة كانت، على النساء الأردنيات المنتميات لتلك الفئة المحظية (الشرق - أردنية) ذات الأنوثة المثالية رفع الصوت عاليا بنقد وضع المرأة ككل، وبتقديم شهاداتهن على ما يتعرّضن له هن أيضا من تمييز أو عنف، وبالتضامن خصيصا مع الأخريات اللواتي، يتم إسكاتهن، لأنهن لا يحملن أسماء عائلات شرق أردنية. فقط عندما تخرج النساء عن صمتهن، ويسعين إلى التضامن مع بعضهن، بغض النظر عن أصولهن، سيتمكنّ من تغيير الواقع الذي يعشن كلهن في ظله. ولعل هذا هو التهديد الأكبر للذكورية الأردنية التي لا تملّ من الصراخ فوق أصواتنا: "أنا إللي بمثّل الأردن". .. الأردنيات يمثّلن الأردن.