الرحلة من "نوال علي" الصحفية التي تحرش بها شرطيون وبلطجية تابعون للحزب الوطني المنحل في مصر أثناء مظاهرة أمام نقابة الصحفيين في القاهرة أيام المخلوع مبارك، فخرجت مظاهرات وأعلنت نقابة الصحفيين الحداد والغضب، وامتد شريط أسود بطول واجهة النقابة، ومرورا بـ "ست البنات" التي انتهك العسكر حرمتها وسحلوها ومزقوا ملابسها في ميدان التحرير أيام حكم المجلس العسكري في مصر.
وقد تفاوتت ردود الفعل آنذاك، بين مظاهرات ترفع شعار "بناتنا خط أحمر"، وبين تساؤلات أضحت علامة عار في تاريخ الكثيرين، حين قالوا "إيه اللي ودّاها هناك؟"، وصولا لمئات الفتيات والنساء اللاتي يتم التعرض لهن يوميا بالتحرش والاعتقال والتعذيب والاغتصاب في مصر حاليا، في ظل قبول وتصفيق، علا ضجيجه على أي صوت آخر، إن وجد.
كل هذه الرحلة وهذه الحوادث تشير، بما لا يدع مجالا إلا للصدمة، إلى أن احترام المجتمع المصري للمرأة وصيانة الوعي الجمعي وتقاليد المصريين فيما يخص المرأة والذي كان خطا أحمر لا يجوز المساس به، قد جرت فيه مياه كثيرة على العكس مما يجري النيل، ذلك أن ضفتي النهر قد فاضتا بالكثير من القصص والحكايا عن انتهاكات لقدسية المرأة، تعددت تفاصيلها وأسبابها واتفقت دلالتها على تغير عميق أصاب وجدان المصريين وصورة الأنثى لديهم.
فعلى مستوى التحرش الجماعي والتحرش السياسي والاغتصاب والاعتداء، تكثر القصص حتى أنه من الممكن أن تفقد معناها ويتبلد الإحساس بها. فيرصد تقرير "أذرع الظلم" الصادر في يناير 2014 والذي أعدته 14 منظمة حقوقية، يرصد 186 حالة اعتداء جنسي واغتصاب خلال الفترة من 28 يونيو/حزيران إلى 7 يوليو/تموز في محيط ميدان التحرير، وهو مستوى غير مسبوق، ليس في العدد فقط، ولكن في وحشية الاعتداءات. كما رصد التقرير 250 حالة من نوفمبر/تشرين الأول 2012 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2013.
كما أظهر التقرير الصادر في العام 2013 من قبل هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين أن 99 % من النساء المصريات تعرضن لشكل من أشكال العنف الجنسي منذ عام 2008، بالإضافة إلى دراسة مماثلة أظهرت أن 83 % من النساء يتعرضن للتحرش يوميا.
قبلاً، كان التعرض لفتاة بالنظر أو اللمس أو الكلام يستوجب القتل وربما المعاداة والثأر.. كان يطلق على المرأة "حرمة" والمكان الخاص بتواجدها المتواصل يسمى "الحرملك".. نظرا لحرمة التعرض لها، ثم خرجت المرأة للتعليم، ومن ثم للعمل، ومنه إلى الحياة العامة والمشاركة السياسية.. وأصبحت المرأة مسؤولة عن توفير لقمة العيش مثلها مثل الرجل.
وعلى مر السنوات أصبحت تكسر فكرة "الحرمة" و"العيب" حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي تهان فيها المرأة وتسحل ويعتدى عليها بلا رد فعل شخصي أو مجتمعي أو حتى إعلامي.
تحرش موجّه
لماذا لم تعد المرأة المصرية في الشارع خطا أحمر، كما كانت من قبل، وما هو تاريخ الاعتداء على النساء في الشوارع.. وهل تغير الحال للأفضل أم للأسوأ بعد ثورة يناير.. وكيف تحول المجتمع إلى قبول الاعتداء على المرأة وإهانتها والتحرش بها وسحلها ودهسها في الشوارع إلى هذا الحد؟
يقول الدكتور محمد المهدي - الطبيب النفسي - إن ظاهرة التحرش سبقت ثورة يناير، وكانت هناك كثير من البيانات والتحذيرات على المستوى الدولي من أن نسبة التحرش في مصر تتزايد، وكتب وقتها في مجلة "تايم" الأمريكية أن نسبة التحرش في مصر هي الأعلى في العالم منذ بدء عهد مبارك. كما نذكر جميعا، فيلم “678" الذي فتح باب النقاش حول هذا الموضوع على مصراعيه، ورصد جوانب الظاهرة من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأجريت إحصاءات للتحرش في مراكز حقوقية عدة وقتذاك، وكانت نسبة من ذكرن أنهن تعرضن للتحرش تتراوح بين 60 إلى 90 % من الفتيات والنساء.
ثم جاءت ثورة 25 يناير، وكان من المأمول أن تتغير هذه الظاهرة مع ما رأيناه في الثمانية عشر يوما الأولى، من ارتقاء وتحضر في أخلاق الثائرين في ميدان التحرير والميادين الأخرى، حيث لم يلاحظ أحد علامات تحرش وسط هذه الملايين، بل على العكس، كان سلوكا راقيا ومترفعا.
ولكن للأسف، مع حالة الانفلات الأمني والفوضى التي سادت في المرحلة الانتقالية، عادت ظاهرة التحرش لتطل بوجهها القبيح مرة أخرى، وربما بشكل أكثر فجاجة، وزاد فيها التحرش المدفوع بعوامل سياسية، حيث لوحظ تأثير المرأة في الفعاليات السياسية المختلفة، فكانت القوى المتسارعة تحاول الضغط على منافسيها أو مناوئيها بسلاح التحرش للفتيات والنساء، والتقطت كاميرات الإعلام المحلي والدولي صورا مؤلمة لعمليات تحرش، اتخذت الطابع السياسي الانتقامي.
ومن المعروف في حالة الثورات، أن يكون هناك ما يسمى بـ"الفترة الرومانسية" التي تشهد التماسك الشعبي والتفاعل المتحضر، ثم تأتي المرحلة الثانية، حيث تقع التفاعلات العاصفة وتكون هناك حالة من السيولة، وربما الفوضى، إذ يكون النظام القديم قد سقط، بينما النظام الجديد لم يقم بعد، وفي هذه المرحلة تضعف الضوابط الأمنية والقانونية والأخلاقية، وتظهر العيوب التي سادت في مراحل الفساد السابقة أكثر وضوحا وتحديا، ومن هنا شهدنا تزايدا في معدلات الجريمة بكل أنواعها في المرحلة الانتقالية، ومنها جريمة التحرش.
أما المرحلة الثالثة، والتي يفترض أن يصل إليها المجتمع، فهي مرحلة التوافق وإعادة التنظيم، وفيها يفترض أن تستقر الأوضاع، وتقوم مؤسسات دستورية جديدة تعيد الانضباط وتعيد القانون، ويعود المجتمع مرة أخرى، تدريجيا، إلى القواعد الأخلاقية المتعارف عليها، ولكن يبدو أن الصراعات التي امتدت وتنامت في المرحلة الانتقالية تؤخر هذه المرحلة الثالثة المتوقعة بعد الثورات، كما حدث في كثير من التجارب الثورية الأخرى.
وفي الأحداث عموما، استخدمت المرأة كسلاح سياسي للتأثير في سير الأحداث وللضغط المتبادل بين الأطراف، ولما كان وجود المرأة في الأحداث الجارية مؤثرا وفاعلا، كان هذا السلاح أيضا ظاهرا ومؤثرا، ولم يلتفت الجميع إلى أن هذا السلاح يصيب أغلى ما يعتز به أي مجتمع إنساني، ممثلا في المرأة، كأم وأخت وزوجة وشرف وكرامة ومسؤولية.
ومن المؤسف أن يتورط في عمليات التحرش، والتحرش المضاد، تنظيمات سياسية، وربما هيئات رسمية. وهذا هو المتغير المثير للقلق، وقد كانت له جذور في عصر مبارك في فترات الانتخابات والفعاليات السياسية. ولم يكن يتوقع أن يعود مرة أخرى بعد ثورة عظيمة مثل ثورة يناير.
تشوه الصورة
يشرح د. المهدي كيف تتعرض صورة المرأة لعملية تشوه كبيرة ومستمرة في الوعي العام المجتمعي في السنوات الأخيرة، وهذا يحدث من خلال اتجاهين، أحدهما استخدام المرأة كجسد، والترويج التجاري الفني والإعلامي لاستخدام جسد المرأة وإبراز مواطن الإثارة فيه، والإيحاء بأن المرأة هي جسد جميل ومثير، هذا من جانب، أما الجانب الآخر، فكان للأسف الشديد من ناحية الخطاب الديني لبعض التيارات، والذي تحدث أيضا عن المرأة على أنها جسد مسكون بالغواية، وأنها أداة الشيطان للإيقاع بالرجال في الخطيئة.
وعلى الرغم من التناقض الظاهري بين هذين الخطابين، إلا أنهما التقيا في أن المرأة تختزل في أنها جسد للغواية والإثارة.
و قد لوحظ منذ سنوات عصر مبارك، وهو أمر مستمر حتى الآن، أن هناك خللاً في "الضمير العام" نتج عن سنوات الفساد الطويلة والتجريف السياسي والأخلاقي والنزعة الاستهلاكية والاستغلالية والانتهازية في المجتمع. إضافة إلى خطاب ديني يركز على الشكل دون المضمون، الأمر الذي أدى إلى ما سميّ، في وقت من الأوقات، ثقوب في الضمير العام.
وللأسف الشديد، هذه الثقوب أخذت في الاتساع مع الوقت وأصبح الضمير العام مهلهلا. وبالتالي صار من السهل أن يتقبل سلوكيات كان يرفضها في حالة تعافيه، لقد كان من الثوابت لدى المجتمع المصري والمجتمعات الشرقية والإنسانية عموما، أن المرأة حرمة خاصة، حتى في النزاعات والحروب، كان هناك حد أدنى من المحافظة على المرأة يعيه الجميع.
هذه العيوب أو الثقوب في الضمير هي التي سمحت أيضا بامتهان المرأة والتحرش بها، وربما اغتصابها على مرأى من الناس من دون أن ينتفض الوعي العام استنكارا ورفضا لانتهاك ما كان من الثوابت لديه.
تراجع خطير
وتشير د. دعاء راجح الخبيرة الاجتماعية إلى أن المرأة لم تعد تحتل مكانتها السابقة في الأسر العربية، ومع الانهيار الأخلاقي العام الذي ضرب مجتمعاتنا، فقد قلت هذه الحصانة بالتدريج، فلم تعد المرأة حرما محرما، وأصبح من السهل أن يتم التحرش بها في أي مكان عام، من دون أن يلتفت أحد إلى ذلك، وأصبح من السهل الاعتداء عليها لفظيا وجسديا، وأن يتم احتجازها وسجنها والتعرض لها والاعتداء عليها. ولا يحرك هذا الأمر قلب الرجل العربي، فضلا عن نسائه أيضا.
من جهتها، تقول سمر عبده - المدربة الاجتماعية - أن ما يلاحظ الآن على المجتمع المصري ونظرته للمرأة وسكوته عما يحدث لها من اعتداءات وانتهاكات على جميع المستويات، يحدث منذ فترة زمنية طويلة، والسبب في ذلك يرجع إلى شيوع ثقافة الاهتمام بالنفس على حساب الجميع، فالشخص تم تنشئته صغيرا على الاهتمام بنفسه وبلقمة عيشه فقط، ويكون شعار حياته "أنا ومن بعدي الطوفان". فإذا لم يكن هناك ما يمسه ويهدد أمنه بشكل مباشر، فهو لن يتحرك ولن يشارك، ولن يقول كلمة حق.
ما حدث للمصري على مدى العقود الأخيرة جعله في حالة انفصام عن الواقع، على مستوى المشاعر والاهتمام وحضور الضمير واستخدام العقل، فهو يشاهد ما يحدث حوله، كأنه فيلم سينمائي، فالأهم من كل ما حوله هو نفسه وأسرته ودائرته الضيقة. وقد كان لمبارك الفضل في غرس هذه الثقافة بين المصريين، وجعلهم يلتفتون فقط للقمة عيشهم.
وما يحدث للنساء والفتيات من انتهاكات ليس جديدا ولكننا لم نكن نراه، فقد كان يحدث في الخفاء بعيدا عن الأعين، أما الآن فأصبح الجهر بالفحش أمام الجميع أمرا عاديا، والسبب وراء ذلك أن التسيب في المجتمع أصبح يُعطى له الضوء الأخضر من مراكز القوى في المجتمع، وهذا مما جعل الفحش والجهر به في ازدياد مستمر، وما يتيح له مساحة أكبر، هو حالة الصمت التي ينتهجها الكل.
كما أن زيادة الهوة الفاصلة بين طبقات المجتمع المختلفة ساهم في هذه الأزمة أيضا، فأصبح هناك في مصر الآن مشكلة متجذرة، وهي مشكلة العشوائيات، حيث الأخلاقيات منهارة والفقر مدقع والحاجات الأساسية غير ملبّاة، ولا أحد يهتم بها، ولا يلاحظ سكانها، والنتيجة أنهم اقتحموا الحياة بأنفسهم، حتى حياة الأغنياء أنفسهم ومتوسطي الدخل، فهم يعتدون على البنات من حولهم في أي مكان، من منظور أن هذا حقهم، لأنه لا يوجد من يهتم باحتياجاتهم الأساسية.
التعافي الأخلاقي
ويرى د. المهدي أن المرحلة الثالثة من مراحل الثورات هي مرحلة التوافق والتعايش والبناء، وفي بداية هذه المرحلة يدرك الجميع أن الصراع سيدمرهم، وأن حالة الفوضى تأتي على الأخضر واليابس وتعصف بمصالح الجميع.
لذلك يبدأ التفكير بواقعية في وضع قواعد تحفظ للجميع وجودهم، وتشكل صيغة للتعايش رغم الاختلاف، وهنا يبدأ وضع عقد اجتماعي يسمح بتحقيق مصالح جميع التيارات والفئات بشكل متوازن ويعيد المؤسسات الراسخة، ويعيد هيبة القانون، ويبدأ المجتمع في الالتئام مرة أخرى، وتبدأ المنظومة الأخلاقية في التعافي، وقرب المجتمع من الوصول إلى هذه المرحلة أو بعده مرتبط بالتركيبة السياسية والاجتماعية وبدرجة نضج المجتمع، وبوجود شخصيات قيادية تعمل على نقله من مرحلة التفاعل العاصف "الفوضى" إلى مرحلة التوافق والتعايش والبناء.