يحفل التراث المعماري الإسلامي بالعلوم التي تخدم السكان داخل مدنهم وتراعي البيئة، مثل أنظمة توصيل المياه من الأنهار والعيون، عن طريق حفر الآبار والمجاري والقنوات، وأنظمة تحلية المياه التي أخذها الغرب عنهم بعد ذلك حين نشطت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية.
كما حقّقت المدن الإسلامية مبدأ الاستدامة عن طريق إنشاء الأفنية في البيوت وبين المنازل، وتضييق الشوارع فيما بينها لتكون للمشاة فقط، دون العربات والدواب، وذلك تحقيقاً لمبادئ أساسية أقرتها الشريعة الإسلامية، كالخصوصية ومبدأ الجوار، والاهتمام بالبيئة والإنسان وراحته النفسية.
وقد كانت الاعتبارات البيئية في مقدمة الاعتبارات التي أخذت في الحسبان عند تخطيط المدن الإسلامية الجديدة، أو عند التوسع العمراني حول المدن القائمة، أو عند تصميم المباني.
وإذا عدنا إلى صدر الإسلام، سنجد أنّ أهل المدينة المنورة اختاروا الموقع ذا الأجواء النقية لإقامة منازلهم، ففضّلوا السكنى في العالية وقباء على السافلة، وهي الجهة الشمالية الغربية من المدينة، كذلك شيِّدوا أوّل مسجد في الإسلام في قباء، ذات الموقع الطيب.
وحينما هاجر الرسول إلى المدينة كانت معظم أسواقها في يد اليهود، وأكثرها أهمية سوق بني قينقاع، وقد رغب الرسول في أن يجعل للمسلمين سوقاً خاصة بهم، وكره أن يجعلها في موقع سوق بني قينقاع بعد إجلائهم، فاختار منطقة فضاء، تقع غرب المسجد النبوي، تتميّز بكونها بعيدة عن المناطق السكنية، وتعطي التجار القادمين وإبلهم فرصة أكبر للحركة، وتحفظ البيوت من ضوضاء البيع والشراء وجلبة السوق، وما تسبّبه المخلّفات من روائح مؤذية أحياناً.
ومع ازدياد تعداد سكان المدينة المنورة، اتجهت الأنظار إلى تشييد المباني في "وادي العقيق"، وتفضيل السكنى فيه على ما سواه، لما يتميز به من نقاء في الهواء وارتفاع في المكان. وقد بدأت حركة البناء في "العقيق" منذ أواخر الخلافة الراشدة، لكنها اشتّدت في العصر الأموي، وغطّت ضفافه وعرصاته حتى لم يبق فيه موضع لبناء قصر، مثل قصر عروة بن الزبير، وقصر مروان بن الحكم، وقصر سعد بن أبي وقاص.
عوامل نفسية وبيئية
وقد حرص المسلمون عند تأسيس المدن على اختيار الأماكن التي تلائم طبيعة السكان ومزاجهم، والتي توافق طبيعة أبدانهم، وتكون في مواضع صحية خالية من الحشرات والهوام، غير موبوءة، ومناظرها مما ترتاح له النفس.
وهذا كان عاملاً رئيسياً في انتقال المسلمين من "المدائن"، عاصمة كسرى، كمثال. فعلى الرغم من أنها كانت تحفة العصر، وبها مختلف وسائل الترف والنعيم من الحدائق والقصور، إلا أن العرب حينما نزلوا بها تغيرت ألوانهم، وهزلت أجسامهم، وخفت لحومهم. وعندما علم الخليفة عمر بن الخطاب بهذا، أدرك بذكائه الفطري المعهود أهمّية العامل البيئي في اختيار الموضع الذي يصلح لنزول محاربيه، ليحتفظوا بنشاطهم وقوّتهم وحيويّتهم، التي خرجوا بها من الصحراء، وأنّه لا تصلح للعرب إلا بيئة جغرافية تشبه البيئة التي خرجوا منها، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص: "إن العرب بمنزلة الإبل، لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل، فارتد لهم موضعاً عدناً، ولا تجعل بيني وبينهم بحراً".
فكّر سعد بالأنبار الواقعة على الضفة الغربية للفرات، حيث لا توجد فواصل بينها وبين الجزيرة. وأراد أن يتخذها منزلاً، فكثر على الناس الذباب، فتحوّل إلى موضع آخر ثم آخر.. ثم تنتهي حكاية بناء الكوفة كالتالي: "فخرجوا حتى أتوا موضع الكوفة اليوم، فانتهوا إلى الظهر حيث ينبت الخزامى والأقحوان والشيح والقيصوم والشقائق فاختطوا المدينة". فوجود مثل هذه النباتات البرية والنامية في الموقع دليل على نظافة الهواء بالموقع، بالإضافة إلى إمكانية وجود الماء فيه.
في العصر العباسي
من صور العبقرية البيئية في تخطيط المدن الإسلامية، ما فعله أبو جعفر المنصور، حين اختار موقع بغداد "المدينة المدوّرة". يذكر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" بأن الخليفة العباسي خرج إلى هذا الموقع وبات فيه، واستقصى الأمر من السكان، حول المناخ والبقّ والهوام، ووجّه رجاله أن يبيت كل منهم في قرية من القرى المحيطة ويعودون بأخبارها.
وقد اهتمّ العباسيون بحفر الآبار والقنوات والقناطر لنقل المياه من الأماكن البعيدة إلى كل ناحية من مدينة بغداد، وقد بنيت هذه القنوات بتقنيات عالية وأساليب إنشائية مميزة، كما قاموا بإخفائها تحت الأرض، وسميت بالقنوات الجوفية المحفورة، وهذا العمل لا تشهد به السوابق التاريخية، فالإغريق والرومان بنوا مجاريهم الضخمة، ولكنهم تركوها مكشوفة فوق الأرض.
ويروى عن الرازي، حين استشاره عضد الدولة بن بويه في اختيار موقع للبيمارستان (المستشفى) العضدي ببغداد، فذهب إلى نواح عدّة في بغداد لينتخب أصحّها، وأمر بعض الغلمان أن يعلقوا في كلّ ناحية من أنحاء بغداد قطعة من اللحم. والموضع الذي بقيت فيه قطعة اللحم أطول مدة دون أن تفسد اختاره لبناء البيمارستان.
ويخلص ابن سينا في كتابه "القانون في الطب" إلى أن المساكن يجب أن تكون في ناحية المشرق، وأبوابها وشبابيكها باتجاه شرق الشمال، لتمكين الرياح الشرقية - وهي الأكثر نقاء وصفاء - من الدخول إلى الأبنية، وكذلك تمكين الشمس من الوصول إلى كلّ موضع فيها.
ويذكر الجاحظ في كتابه "البخلاء" معايير تصميم البيوت، من خلال وصفه بيوت البصرة في عصره، كتخصيص مكان للبالوعة (المرحاض)، وآخر للغسيل في فناء الدار، ووضع المطبخ على السطح، لتفادي انتشار روائح الطبخ في البيت.
وقد شارك ابن قتيبة في وضع هذه المعايير، فأشار في كتابه "عيون الأخبار" إلى ضرورة توجيه قسم النوم إلى الشرق، وأن تكون المجالس في جهة الغرب. كما أشار إلى استعمالات الأراضي وضرورة تخصيص المناطق الشرقية للعمران والمناطق الغربية للبساتين.
كما حقّقت المدن الإسلامية مبدأ الاستدامة عن طريق إنشاء الأفنية في البيوت وبين المنازل، وتضييق الشوارع فيما بينها لتكون للمشاة فقط، دون العربات والدواب، وذلك تحقيقاً لمبادئ أساسية أقرتها الشريعة الإسلامية، كالخصوصية ومبدأ الجوار، والاهتمام بالبيئة والإنسان وراحته النفسية.
وقد كانت الاعتبارات البيئية في مقدمة الاعتبارات التي أخذت في الحسبان عند تخطيط المدن الإسلامية الجديدة، أو عند التوسع العمراني حول المدن القائمة، أو عند تصميم المباني.
وإذا عدنا إلى صدر الإسلام، سنجد أنّ أهل المدينة المنورة اختاروا الموقع ذا الأجواء النقية لإقامة منازلهم، ففضّلوا السكنى في العالية وقباء على السافلة، وهي الجهة الشمالية الغربية من المدينة، كذلك شيِّدوا أوّل مسجد في الإسلام في قباء، ذات الموقع الطيب.
وحينما هاجر الرسول إلى المدينة كانت معظم أسواقها في يد اليهود، وأكثرها أهمية سوق بني قينقاع، وقد رغب الرسول في أن يجعل للمسلمين سوقاً خاصة بهم، وكره أن يجعلها في موقع سوق بني قينقاع بعد إجلائهم، فاختار منطقة فضاء، تقع غرب المسجد النبوي، تتميّز بكونها بعيدة عن المناطق السكنية، وتعطي التجار القادمين وإبلهم فرصة أكبر للحركة، وتحفظ البيوت من ضوضاء البيع والشراء وجلبة السوق، وما تسبّبه المخلّفات من روائح مؤذية أحياناً.
ومع ازدياد تعداد سكان المدينة المنورة، اتجهت الأنظار إلى تشييد المباني في "وادي العقيق"، وتفضيل السكنى فيه على ما سواه، لما يتميز به من نقاء في الهواء وارتفاع في المكان. وقد بدأت حركة البناء في "العقيق" منذ أواخر الخلافة الراشدة، لكنها اشتّدت في العصر الأموي، وغطّت ضفافه وعرصاته حتى لم يبق فيه موضع لبناء قصر، مثل قصر عروة بن الزبير، وقصر مروان بن الحكم، وقصر سعد بن أبي وقاص.
عوامل نفسية وبيئية
وقد حرص المسلمون عند تأسيس المدن على اختيار الأماكن التي تلائم طبيعة السكان ومزاجهم، والتي توافق طبيعة أبدانهم، وتكون في مواضع صحية خالية من الحشرات والهوام، غير موبوءة، ومناظرها مما ترتاح له النفس.
وهذا كان عاملاً رئيسياً في انتقال المسلمين من "المدائن"، عاصمة كسرى، كمثال. فعلى الرغم من أنها كانت تحفة العصر، وبها مختلف وسائل الترف والنعيم من الحدائق والقصور، إلا أن العرب حينما نزلوا بها تغيرت ألوانهم، وهزلت أجسامهم، وخفت لحومهم. وعندما علم الخليفة عمر بن الخطاب بهذا، أدرك بذكائه الفطري المعهود أهمّية العامل البيئي في اختيار الموضع الذي يصلح لنزول محاربيه، ليحتفظوا بنشاطهم وقوّتهم وحيويّتهم، التي خرجوا بها من الصحراء، وأنّه لا تصلح للعرب إلا بيئة جغرافية تشبه البيئة التي خرجوا منها، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص: "إن العرب بمنزلة الإبل، لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل، فارتد لهم موضعاً عدناً، ولا تجعل بيني وبينهم بحراً".
فكّر سعد بالأنبار الواقعة على الضفة الغربية للفرات، حيث لا توجد فواصل بينها وبين الجزيرة. وأراد أن يتخذها منزلاً، فكثر على الناس الذباب، فتحوّل إلى موضع آخر ثم آخر.. ثم تنتهي حكاية بناء الكوفة كالتالي: "فخرجوا حتى أتوا موضع الكوفة اليوم، فانتهوا إلى الظهر حيث ينبت الخزامى والأقحوان والشيح والقيصوم والشقائق فاختطوا المدينة". فوجود مثل هذه النباتات البرية والنامية في الموقع دليل على نظافة الهواء بالموقع، بالإضافة إلى إمكانية وجود الماء فيه.
في العصر العباسي
من صور العبقرية البيئية في تخطيط المدن الإسلامية، ما فعله أبو جعفر المنصور، حين اختار موقع بغداد "المدينة المدوّرة". يذكر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" بأن الخليفة العباسي خرج إلى هذا الموقع وبات فيه، واستقصى الأمر من السكان، حول المناخ والبقّ والهوام، ووجّه رجاله أن يبيت كل منهم في قرية من القرى المحيطة ويعودون بأخبارها.
وقد اهتمّ العباسيون بحفر الآبار والقنوات والقناطر لنقل المياه من الأماكن البعيدة إلى كل ناحية من مدينة بغداد، وقد بنيت هذه القنوات بتقنيات عالية وأساليب إنشائية مميزة، كما قاموا بإخفائها تحت الأرض، وسميت بالقنوات الجوفية المحفورة، وهذا العمل لا تشهد به السوابق التاريخية، فالإغريق والرومان بنوا مجاريهم الضخمة، ولكنهم تركوها مكشوفة فوق الأرض.
ويروى عن الرازي، حين استشاره عضد الدولة بن بويه في اختيار موقع للبيمارستان (المستشفى) العضدي ببغداد، فذهب إلى نواح عدّة في بغداد لينتخب أصحّها، وأمر بعض الغلمان أن يعلقوا في كلّ ناحية من أنحاء بغداد قطعة من اللحم. والموضع الذي بقيت فيه قطعة اللحم أطول مدة دون أن تفسد اختاره لبناء البيمارستان.
ويخلص ابن سينا في كتابه "القانون في الطب" إلى أن المساكن يجب أن تكون في ناحية المشرق، وأبوابها وشبابيكها باتجاه شرق الشمال، لتمكين الرياح الشرقية - وهي الأكثر نقاء وصفاء - من الدخول إلى الأبنية، وكذلك تمكين الشمس من الوصول إلى كلّ موضع فيها.
ويذكر الجاحظ في كتابه "البخلاء" معايير تصميم البيوت، من خلال وصفه بيوت البصرة في عصره، كتخصيص مكان للبالوعة (المرحاض)، وآخر للغسيل في فناء الدار، ووضع المطبخ على السطح، لتفادي انتشار روائح الطبخ في البيت.
وقد شارك ابن قتيبة في وضع هذه المعايير، فأشار في كتابه "عيون الأخبار" إلى ضرورة توجيه قسم النوم إلى الشرق، وأن تكون المجالس في جهة الغرب. كما أشار إلى استعمالات الأراضي وضرورة تخصيص المناطق الشرقية للعمران والمناطق الغربية للبساتين.