في خضم تلك المساعي، عادت إلى الأضواء قضية مهمة تشغل أذهان الأفغان منذ عقود، وكانت محط اهتمام الطرفين خلال المباحثات الأخيرة، وهي قضية المدارس الدينية الباكستانية، التي تُعد الحاضنة الأساسية لحركة طالبان وجماعات مسلحة أخرى، إذ كانت تُعتبر الداعمة الرئيسية للأحزاب "الجهادية" ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان في سبعينيات القرن الماضي، حين شهدت المدارس الدينية ازدهاراً شديداً لتقاوم القوات الروسية في أفغانستان.
دور المدارس الدينية
ولا يزال للمدارس الدينية دور كبير وثقل ووزن مهمان في تغيير موازين القوى في باكستان خصوصاً، وفي المنطقة على وجه العموم، لا سيما أن أحزاباً دينية تُمثلها في البرلمان وفي الساحة السياسية الباكستانية. كما تربطها علاقات وطيدة مع الجيش والاستخبارات، ما تسبّب في إفشال محاولات الحكومات المتعاقبة للتصدي لدور هذه المدارس.
ولكن نتيجة للتطورات التي شهدتها المنطقة أخيراً، باتت باكستان مضطرة لاتخاذ خطوات حيال هذه المدارس الدينية. من هذا المنطلق وبعد أن تكررت النداءات من قبل الحكومات المحلية، وتحديداً من قبل حكومة إقليم خيبر بختونخوا التي يتزعمها حزب "حركة الإنصاف" بزعامة عمران خان لأجل تنظيم وترتيب نظام هذه المدارس، تحدث قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوه لأول مرة بشأنها، وحول ضرورة ضبط نظامها، وكانت تصريحاته محط اهتمام الساحة الباكستانية، وخصوصاً الأحزاب السياسية. ولكن الملفت في تصريحاته هو تساؤله عما إذا كان خريجو هذه المدارس يتوجّهون نحو الجماعات المسلحة التي تهدد أمن واستقرار البلاد، أم أنهم يتخرجون علماء دين ليخدموا الشعب والوطن.
السؤال نفسه كررته أحزاب عدة، لا سيما تلك المعارضة للفكر الديني وعلى رأسها حزب "حركة الإنصاف"، المُتهم بحصوله على دعم من الاستخبارات في الداخل ومن بعض الدول الغربية. حاول الحزب مراراً من خلال حكومته في شمال غرب باكستان، ضبط هذه المدارس ووضع قيود عليها، إلا أن الجماعات الدينية والاستخبارات الباكستانية وقفت في وجهه.
كذلك، فإن الحكومة الأفغانية طلبت من إسلام أباد خلال زيارات أخيرة لمسؤولين باكستانيين إلى كابول، أن ترغم الجماعات الدينية وعلماء الدين في باكستان على إصدار فتوى شرعية ضد حركة طالبان والقتال في أفغانستان عموماً، كما كشفت صحيفة "دان" الباكستانية. وذكرت الصحيفة أن قائد الجيش الباكستاني وعد كابول خلال زيارته في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بالعمل ضد المدارس الدينية وإجبار العلماء على إصدار فتوى ضد "طالبان". وتساءلت الصحيفة هل سيتمكن قائد الجيش من أن يفعل ذلك؟ معتبرة أن الأمر في غاية الصعوبة، لأن أي تحرك في هذا الشأن سيؤدي إلى نتائج خطيرة داخلياً.
وبعد هذه التطورات، بات السؤال المطروح هل بدّل الجيش والاستخبارات موقفهما إزاء هذه المدارس الدينية التي تعد وسيلة نفوذ للاستخبارات في المنطقة، ولها دور ضد الهند في إقليم كشمير؟ كما أنها تشكل العنصر البشري لـ"طالبان" وجماعات مسلحة أخرى في أفغانستان. وإذا كان موقفهما تغيّر، فما الهدف من ذلك، وكيف سيواجه الجيش التحديات الداخلية الناجمة عن ذلك؟
لا شك أن الجيش في حال قرر تغيير تعامله مع المدارس الدينية، فإنه سيواجه عقبات كبيرة في الداخل، أولها من الأحزاب الدينية، وعلى رأسها جمعية علماء باكستان التي يتزعمها المولوي فضل الرحمن، أحد المتحالفين مع الحكومة الحالية، إضافة إلى الجماعة الإسلامية بزعامة سراج الحق، وجماعة أهل الحديث، والتيار البريلوي بأحزابه المختلفة. وفي باكستان ما يقرب من 20 ألف مدرسة مسجلة لدى الحكومة إضافة إلى آلاف أخرى غير مسجلة، وكلها تابعة لهذه الأحزاب التي تستمد نفوذها وقوتها منها. وبالتالي فأي محاولة لتقويضها بمثابة تقويض نفوذ تلك الجماعات، ولا شك أنها ستقاوم.
كذلك سيصطدم قرار الجيش بالشريحة الدينية، فمن المعروف أن المجتمع الباكستاني متحفظ لا يقبل التنازل عن القيم الدينية، وهناك شريحة دينية من علماء الدين وطلابه تحظى بأهمية واحترام مرموق في أوساط الشعب، لذلك فأي محاولة ضدها ستؤدي إلى استياء الشعب المتعاطف في مجمله مع العلماء ورجال الدين.
كما أن الحركات الجهادية ستكون عائقاً أمام تحرك الجيش تجاه المدارس الدينية. وثمة تياران للحركات الجهادية، التيار الذي يواجه ما تسميه باكستان بالاحتلال الهندي لإقليم كشمير، ومن أطرافه جماعة الدعوة والبدر مجاهدين، وحركة المجاهدين. تلك الحركات تستمد قوتها من المدارس الدينية، وهي تناضل لصالح باكستان في الهند، كما تقول. أما التيار الثاني فتمثله الحركات الجهادية في أفغانستان، وفي مقدمتها حركة طالبان وشبكة حقاني وحركات جهادية صغيرة أخرى. تلك الحركات يأتي عنصرها البشري من المدارس الدينية في الغالب، كما أن الأخيرة توفر لها جزءاً من الدعم من خلال جمع الأموال والتبرعات. وبينما كانت تفعل ذلك في السابق خفية، تفعله حالياً علناً ومن دون أي تردد. بل إن كبار السياسيين القائمين على تلك المدارس، أفتوا لصالح تلك الجماعات وأعلنوا دعمهم لها. على سبيل المثال السياسي البارز ورئيس جامعة حقاني الدينية الشيخ سميع الحق، المعروف في أوساط "طالبان" بأبي الحركة، وهو أفتى مراراً بـ"الجهاد" ضد الأميركيين والحكومة الأفغانية، مؤيداً "طالبان" بكل أشكال الدعم.
السلطات الأفغانية تتحرك
لم تكتف السلطات الأفغانية بمحاولة إقناع السلطات الباكستانية للعمل ضد المدارس و"طالبان" من خلال تحريك علماء الدين وإصدار فتوى ضدها، بل هي تعمل كذلك على إقناع مواطنيها الأفغان المتواجدين في تلك المدارس، من مدرسين وطلاب، بالعودة إلى البلاد ومدارسها. وفي هذا السياق، قال مسؤول إدارة الشؤون الدينية في إقليم ننجرهار المجاور لباكستان، المولوي عبد الظاهر حقاني، إن الحكومة الأفغانية تسعى منذ عام لإقناع الأفغان الموجودين في المدارس الدينية الباكستانية بالعودة إلى البلاد، وتوفر لهم كافة التسهيلات في المدارس الدينية على أراضيها، لأن الجماعات المسلحة تستغل وجودهم لتحركهم ضد النظام في البلاد لصالح آخرين. وأعلن أن 65 عالماً دينياً كانوا يدرسون في المدارس الباكستانية ويحملون السلاح مع "طالبان"، عادوا إلى أفغانستان نتيجة تلك الجهود المتواصلة والمدعومة من الحكومة والشريحة الدينية في البلاد.
من جهته، قال المتحدث باسم الحكومة المحلية في إقليم ننجرهار، عطاء الله خوجياني، إن الحكومة لديها آلية واضحة لدعم المدارس الدينية وتوفير كافة الإمكانيات لها، خصوصاً في ما يتعلق بالسكن، كما أنها ستؤسس قريباً جامعة دينية في الإقليم هدفها استقبال الأفغان الذين يدرسون في باكستان، وتستخدمهم استخبارات المنطقة لصالحها، على حد قوله.