يتوسط موقع مبنى المحكمة العثمانية البلدة القديمة من مدينة رام الله أو ما يُعرف بـ"رام الله التحتا" وبين مدينة رام الله الأحدث في بنائها، ليسلط المكانُ الضوءَ على تاريخ تحويل رام الله من قرية كانت تتبع لمدينة القدس، إلى مدينة مستقلة بذاتها، في أواخر عهد الدولة العثمانية مطلع القرن العشرين.
وبغضّ النظر عن التأصيل التأريخي لزمن تشييد مبنى المحكمة العثمانية وفترة عملها، إلا أن المكان يأخذ حيزاً مهماً لدى بلدية رام الله، كون فترة عمل المحكمة شكلت تحولاً لرام الله القرية إلى رام الله المدينة، التي تعيش حقبة حضارية جديدة، تحول معها مجتمع رام الله آنذاك من مجتمع ريفي زراعي إلى مجتمع مدني، ومن ثم التحولات التي شهدتها المدينة حتى عقود قليلة وما رافق ذلك من تطور عمراني واقتصادي ملحوظ.
ويوضح الكاتب والباحث التاريخي ومؤلف كتاب "رام الله الحديثة"، سميح حمودة لـ "العربي الجديد"، أنّ المحكمة العثمانية شيدت وبدأت عملها في أواخر العهد العثماني تنفيذاً لقرارات الدولة العثمانية حينذاك تنظيم الدولة وتأسيس النواحي أو ما كان يُطلق عليه باللغة التركية "القصبة"، حيث شيدت المحكمة كمبنى يشبه في أيامنا مبنى المحافظة ويتبع لها عديد القرى، فكانت المحكمة العثمانية في رام الله عام 1915.
تاريخ فاصل
لكن بلدية رام الله وعلى لسان مسؤول المركز السياحي التابع للبلدية، فؤاد معدي أشار في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن مبنى المحكمة بُني في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد وكانت تمتلكه عائلات فلسطينية، إلى أن تم تحويله عام 1902 لمحكمة، في فترة سعي الدولة العثمانية إلى تنظيم المناطق والسيطرة عليها.
وعينت الدولة العثمانية للمحكمة حاكماً يتبع له العديد من الموظفين، ويتولى مسؤولية متابعة رام الله أمنياً عبر أمور الدرك والشرطة، والنظافة، وغيرها من الإجراءات القضائية والإدارية، وقبل أن تصبح قرية رام الله مدينة، كانت تتبع لمدينة القدس إدارياً، إلى أن تحولت إلى بلدة ثم مدينة، وأصبحت محافظة تتبع لها العديد من القرى مطلع القرن الماضي، إثر تدشين عمل المحكمة العثمانية.
وأقيمت مباني قرية رام الله القديمة على تلة بمنطقة تُعرف الآن برام الله التحتا، وحولها العديد من السهول، وكان مجتمع رام الله يعتمد على الزراعة، فحقولها الغنية بالزيتون والعنب والتين، دفعت أهلها للمتاجرة بالقطين "التين المجفف"، والعنب والزيتون ويذهبون لبيع محاصيلهم في القدس ويافا، كما يوضح الباحث حمودة.
واكتسب مبنى المحكمة العثمانية اسمه من العمل الأشهر الذي شغل به وهو المحكمة العثمانية، والتي لازمت اسمه حتى أيامنا هذه، وتؤكد بلدية رام الله أن المبنى كان يتبع لعائلات فلسطينية ومن ثم حوّل إلى عيادة، وبعد ذلك خاناً للتجار يرتاحون فيه حين المرور برام الله، إلى أن أصبح محكمة.
وبعد انتهاء الحكم العثماني في فلسطين أصبح مبنى المحكمة العثمانية يستخدم معملاً لتخمير الموز، وهُجر المبنى منذ زلزال عام 1927 بعدما تصدع بناؤه، إلى أن قررت بلدية رام الله عام 2002، شراءه من مالكيه، وترميمه بالتعاون مع مؤسسة "رواق" التي تُعنى بالتراث المعماري الفلسطيني، وجاء الاهتمام بالمبنى لدلالته على عدة تحولات مرت بها مدينة رام الله، يوضح فؤاد معدي.
قلعة تتوسط رام الله القديمة
كان مبنى المحكمة العثمانية يقع على أطراف قرية رام الله، وكان موقعه يسهل وصول رواده من الأهالي خاصة في القرى المجاورة إليه، لإجراء معاملاتهم الإدارية التي تطلبها الدولة العثمانية.
وتبلغ مساحة مبنى المحكمة العثمانية أكثر من أربعمائة متر، وهو مكون من طابقين، في كل طابق ثلاث غرف لكل غرفة مدخل مستقل، وتزين تلك الغرف القباب والأقواس بفنها المعماري الجميل، بينما تتقدم الغرف ممرات، وحولها ساحات لكل منها استخداماتها في ذلك الحين.
في الطابق العلوي من المبنى، كان القاضي أحمد باشا يمارس مهامه مسؤولاً عن المحكمة وإدارة شؤون الناحية، بينما تستخدم الممرات للدرك، والطابق السفلي من الغرف يستخدم إسطبلاً ولنوم الجند، ولمؤنهم، واختلفت الروايات حول استخدامات بئر صغيرة داخل إحدى الغرف، يعتقد أنها كانت تستخدم زنزانة للتوقيف، ومن ثم يتم تحويل الموقوف للتحقيق في مركز المسكوبية بالقدس.
يبدو المكان كقلعة تتوسط رام الله ما بين شقيها القديم والحديث، مستشرفة موقعاً متميزاً يطل على رام الله القديمة، أما جمال الأقواس والدرج وعلو البناء فيعطيها هيبتها التاريخية، نوافذها وأقواسها وحجارتها وحتى أبوابها مصممة بإتقان، وأبواب غرف المبنى مصممة بطريقة لا تتيح رؤية المارة للموجودين في الداخل أو حتى إطلاق الرصاص عليهم، إن كانوا في الزاوية المقابلة للباب (أو ما تُسمَّى بالزاوية الآمنة)، يوضح معدي.
الأنشطة الحالية
المبنى يُستخدم حالياً مكاتب للموظفين في دائرة الشؤون الاجتماعية والثقافية في بلدية رام الله، وأنشطة للأطفال، وبعض الأنشطة الثقافية للمؤسسات في مدينة رام الله، حيث توضح مديرة دائرة الشؤون الاجتماعية والثقافية في بلدية رام الله، سالي أبو بكر لـ"العربي الجديد"، إن "المبنى حالياً يستخدم كصرح ثقافي، بمرافقه من خلال وجود مكتبة أطفال، والقيام بأنشطة ثقافية، ونسعى لأن يصبح المبنى كذلك مركزاً مجتمعياً ضمن القيام بفعاليات للأطفال وعائلاتهم".
منذ 16 عاماً، وبلدية رام الله تسعى لتعزيز دور المبنى من خلال الفعاليات الثقافية، وأخيراً إلى الفعاليات الاجتماعية، فاستخدمت مرافقه كصرح ثقافي تُقام فيه العديد من الأنشطة الثقافية للأطفال ومكتبة لهم، بينما ساحة المحكمة الخلفية والتي كانت بيدراً (مكاناً لحفظ محاصيل المزارعين) وحديقة للزراعة الموسمية، وكانت فيها ثلاث آبار مياه، فقد أصبحت حالياً حديقة لألعاب الأطفال، ومدرجاً يستخدم للأنشطة الثقافية للأطفال وللمؤسسات الثقافية في رام الله.