المثلية التركية بعيون عربية

07 يوليو 2018
+ الخط -
"الشواذ بيحتفلوا بأردوغان" يقولها أحمد موسى، المذيع المصري ذو العلاقات الأمنية المعروفة، تعليقاً على صور مسيرة الفخر التي نظمها المثليون في تركيا، بينما يؤكد بحماسة أنهم صوّتوا للرئيس رجب طيب أردوغان.
على الجانب الآخر، سارع علمانيون عرب إلى مكايدة الإسلاميين بهذه الصور. وفي المقابل، تلقوا ردوداً دفاعية بأن أردوغان يواجه تراثاً أتاتوركياً متجذّراً، وقد نجا بالكاد من محاولة انقلاب، وبالتالي لا يمكنه إلا أن يكمل في مساره التدريجي، وكما أعاد الحجاب إلى الجامعات سيُعيد تجريم المثلية يوما ما.
يُظهر المشهد حالة الارتباك العربي الداخلية الهائلة بشأن تعريف الذات قبل الغير، فالإعلامي موسى الذي يمثل نظاماً تقوم إحدى ركائزه على أنه أنقذ مصر من الإسلاميين الذين كانوا سيفترسون الحريات الشخصية يعاير من يسمح بها (رغم أن النصف الثاني من المشهد يؤكد أن الشرطة التركية قمعت تلك المسيرة). كما أن حالة موسى هي انعكاس لواقع نظام السيسي  الذي سجن كاتباً روائياً بتهمة "خدش الحياء"، وفصل طالباً احتضن خطيبته، وقبض على مجاهرين بالإفطار في رمضان.
وفي المقابل، تربك هذه الأفعال الصور النمطية التي يراها الخصوم الإسلاميون لهذا النظام المعادي للإسلام، بينما هو في الواقع أقرب إلى "إسلام الدولة" بنسخته الأزهرية الحكومية من أي علمانيةٍ لا يصف بها نفسه أصلاً، بينما يصفه بها مؤيدون مثقفون يخادعون أنفسهم.
وكل هذه الخطابات العربية بعيدة من فهم تجربة التحديث التركية، المختلفة تماماً عن السياق العربي، فالحقيقة أن إلغاء تجريم المثلية في تركيا حدث عام 1858 بالتوازي مع صدور قوانين "الجزاء الهمايوني" في عهد السلطان عبد المجيد الأول، والذي ألغى كل الحدود الإسلامية، كما ألغى حد الردة. وفي العهد نفسه، صدر قانون الأراضي الذي وضع بذرة مساواة المواريث، حيث نصّ على أنه إذا توفى مالك الأراضي الأميرية توزّع الأرض، وكذلك ما يملكه من بيوت وزروع، بالتساوي على أولاده ذكورا وإناثا.
كانت هذه من إجراءات التحديثات العثمانية التي شملت فعلياً تحويل الخلافة إلى دولة قومية بالتعريف الحديث، حيث تم إقرار العلم والنشيد الوطني، وإلغاء اعتبار كل مسلم من أي مكان مواطنا، وعام 1856 تم إلغاء الجزية ومساواة المواطنين في الخدمة العسكرية. ... حدث كل هذا قبل عقود من ميلاد أتاتورك عام 1881.
لا يلتفت الإسلاميون العرب إلا إلى شيطنة شخص أتاتورك، أو التسطيح بالقول إن أوروبا أجبرت الرجل المريض (للمفارقة سبقت الخلافة دولاً أوروبية عدة في إلغاء تجريم المثلية الذي لم يحدث في بريطانيا مثلا إلا عام 1967)، بينما لا يطرح السؤالان: لماذا رأى الخليفة/السلطان ذلك؟ ماذا كان موقف "شيخ الإسلام" والشعب؟
على الجانب الآخر، لا يلتفت أعداء أردوغان العرب إلى تجذّر دولة الحداثة التركية بأمورٍ مثل الحفاظ على الديمقراطية الإجرائية. وفي ظل أقسى الانقلابات، كان يتم إقصاء مكونات كاملة من المشهد السياسي، لكن بعدها تتم انتخابات نزيهة، ولو "صندوقراطية" فقط، وهو ما لا تعرفه الدول العربية ذات تراث التزوير العريق، وهو ما استمر به أردوغان الذي يعتقل صحافيين ومعارضين، ويتلاعب بالقوانين، لكنه لا يزوّر صوتا في صندوق.
كما تغيب تفاصيل تعقد آليات الصراع الاجتماعي والسياسي، فصحيحٌ أنه لا أردوغان ولا حزبه طرحا أبداً أية تعديلات لتجريم المثلية، لكن مسيرة الفخر للمثليين والتي ظلت تقام 12 عاماً تم إلغاء الترخيص بها منذ 2015 بمزاعم تسمى بـ"دواع أمنية". وتعاملت الشرطة مع المسيرة الأخيرة، قبل أيام، بالغاز المسيل والرصاص المطاطي مع المتظاهرين الذين صمموا على دخول شارع الاستقلال في اسطنبول، وتم القبض على أحد عشر منهم.
وهذا الشد والجذب قديم أيضاً منذ ما قبل وصول أردوغان إلى السلطة، بل في عهد حكومات علمانية شهدت وقائع، مثل إلغاء البلديات فعاليات أو مشادات مع الشرطة أو السكان. وفي المجمل، مؤكّد أن رجل أوروبا المريض يظل رجل أوروبا، لا العرب، ولا تنطبق مقاييسه على كل الأطراف مدّعي الوصل.