على خلاف المثقف اليقيني الذي يدعي امتلاك الأجوبة، يشتغل المثقف القلق على مساءلة اليقينيات. عبر انخراطه المهجوس مع الأسئلة يعمل بوعي أم من دونه على دفع المقاربات الاجتماعية والسياسية والثقافية في مجتمعه إلى آفاق جديدة، ويساهم جذريا في عقلنة الخطابات والممارسات وموضعتها في موقع ريادي وتأثيري. التعريفات التنظيرية والوظيفية لـ "المثقف" ودوره، لا سيما في سياق خطابات العالمثالثية وما بعد الكولونيالية، حامت في معظمها حول افتراض دور فعال للمثقف وتحميله مهمات كبيرة، تتجاوز أحيانا كثيرة قدرته على التحمل. في أحايين كثيرة نُظر له بكونه الطليعي حامل مشعل التغيير، والمتيقن من مسارات المستقبل التي "يقود" إليها مجتمعه. بيد أن ذلك اليقين في القدرة شبه الخارقة التي منحها لنفسه مثقف حقبة ما بعد الاستقلال، وهي القدرة ذاتها التي توسمتها فيه جماهير مجتمعه، انكشفت محدوديته في عقود لاحقة ومعه انكشفت محدودية قدرة المثقف نفسه.
تم ذلك الانكشاف والتآكل التدريجي على مدار فترة زمنية ممتدة توازت معها مراجعة كثير من المثقفين لذواتهم الفكرية والسياسية والفلسفية، وبروز نزعات أكثر تواضعا لجهة امتلاك المعرفة النظرية والأجوبة التغييرية التي تستهدف واقع المجتمعات الصعب والمركب. بديلا عن اليقين الراسخ الذي كانت تدعمه يوتوبيا ايديولوجيات سائدة في مراحل متلاحقة من القرن العشرين، توسعت دوائر اللايقين والقلق منتجة نوعا آخر من المثقفين، أو تجذب إليها مثقفين سبق أن كانوا يقينيين في حقب ما من حياتهم الفكرية والسياسية.
ما ساد إذن ردحا طويلا من الفعل والتفكير في إطار المثقفين وأدوارهم هو نمط شبه عام يمكن وصفه بـ "المثقف اليقيني والموقن"، ومفهومه وتعريفه أوسع من مفهوم وتعريف "المثقف الأيديولوجي" أو "المثقف الداعية" صاحب المشروع التبشيري. المثقف اليقيني يعني المثقف صاحب اليقين الراسخ والموقن بفكرة أو أيديولوجية أو منظومة فكرية محددة، وذات جاهزية عالية في تقديم الأجوبة. والمثقف اليقيني أو الموقـِّن (بتشديد القاف وكسرها) تعني المثقف المهموم بنشر يقين ما، وبإقناع من حوله بما يوقن هو به. على ذلك يكون المثقف الأيديولوجي أو مثقف الداعية هو مثقف "موقن" و"موقِّن لأنه يرى ويوقن بأن خلاص مجتمعه أو مجموعته يكمن في تبني وتطبيق الأيديولوجيا (الدنيوية أو الدينية) التي يعتقدها.
لكن العكس ليس صحيحا أي أن "المثقف المُوقن والموقِّن" ليس بالضرورة أن يكون مؤدلجاً، وليس بالضرورة أن يكون دينيا، وهنا تكمن خصوصيته التي تؤمّن وأمّنت له الانتشار والتوسع. فقد يكون هذا المثقف صاحب "يقينيات" سياسية وثقافية واجتماعية غير أيديولوحية، لكنه يدافع عنها ويعمل على ترويجها وأحيانا بالحمية والحماس اللذين يتصف بهما المثقف المؤدلج. هو إذن "مثقف داعية"، فقد يكون داعية لـ "القبيلة" (مثقف قبيلة) او داعية لـ "نظام سياسي" ما، أو لـ "نظام اجتماعي" معين. كما قد يكون "مثقف فكرة" يرى فيها الحل النافذ القريب من تصور الخلاص الأيديولوجي، فمثلاً قد يكون "مُوقنا" بفكرة "السوق الحرة" في الاقتصاد أو "مُوقنا" بفكرة "سيطرة الدولة" على الاقتصاد على وجه أيديولوجي وشبه ديني.
المثقف القلق في المقابل هو فوق الأفكار واليقينيات والخلوصيات وليس أسيرها، وبسبب هذا هو منتجها الأهم.
تم ذلك الانكشاف والتآكل التدريجي على مدار فترة زمنية ممتدة توازت معها مراجعة كثير من المثقفين لذواتهم الفكرية والسياسية والفلسفية، وبروز نزعات أكثر تواضعا لجهة امتلاك المعرفة النظرية والأجوبة التغييرية التي تستهدف واقع المجتمعات الصعب والمركب. بديلا عن اليقين الراسخ الذي كانت تدعمه يوتوبيا ايديولوجيات سائدة في مراحل متلاحقة من القرن العشرين، توسعت دوائر اللايقين والقلق منتجة نوعا آخر من المثقفين، أو تجذب إليها مثقفين سبق أن كانوا يقينيين في حقب ما من حياتهم الفكرية والسياسية.
ما ساد إذن ردحا طويلا من الفعل والتفكير في إطار المثقفين وأدوارهم هو نمط شبه عام يمكن وصفه بـ "المثقف اليقيني والموقن"، ومفهومه وتعريفه أوسع من مفهوم وتعريف "المثقف الأيديولوجي" أو "المثقف الداعية" صاحب المشروع التبشيري. المثقف اليقيني يعني المثقف صاحب اليقين الراسخ والموقن بفكرة أو أيديولوجية أو منظومة فكرية محددة، وذات جاهزية عالية في تقديم الأجوبة. والمثقف اليقيني أو الموقـِّن (بتشديد القاف وكسرها) تعني المثقف المهموم بنشر يقين ما، وبإقناع من حوله بما يوقن هو به. على ذلك يكون المثقف الأيديولوجي أو مثقف الداعية هو مثقف "موقن" و"موقِّن لأنه يرى ويوقن بأن خلاص مجتمعه أو مجموعته يكمن في تبني وتطبيق الأيديولوجيا (الدنيوية أو الدينية) التي يعتقدها.
لكن العكس ليس صحيحا أي أن "المثقف المُوقن والموقِّن" ليس بالضرورة أن يكون مؤدلجاً، وليس بالضرورة أن يكون دينيا، وهنا تكمن خصوصيته التي تؤمّن وأمّنت له الانتشار والتوسع. فقد يكون هذا المثقف صاحب "يقينيات" سياسية وثقافية واجتماعية غير أيديولوحية، لكنه يدافع عنها ويعمل على ترويجها وأحيانا بالحمية والحماس اللذين يتصف بهما المثقف المؤدلج. هو إذن "مثقف داعية"، فقد يكون داعية لـ "القبيلة" (مثقف قبيلة) او داعية لـ "نظام سياسي" ما، أو لـ "نظام اجتماعي" معين. كما قد يكون "مثقف فكرة" يرى فيها الحل النافذ القريب من تصور الخلاص الأيديولوجي، فمثلاً قد يكون "مُوقنا" بفكرة "السوق الحرة" في الاقتصاد أو "مُوقنا" بفكرة "سيطرة الدولة" على الاقتصاد على وجه أيديولوجي وشبه ديني.
المثقف القلق في المقابل هو فوق الأفكار واليقينيات والخلوصيات وليس أسيرها، وبسبب هذا هو منتجها الأهم.