تبدو العلاقة بين الكاتب الأردني والسلطة هجينة في أغلب أحوالها وحالاتها؛ لا وجود فيها لمعارضة جذرية - بالمعنى التقليدي للمصطلح - ولم نشهد كتابة إبداعية أو فكرية تؤشر عليها، وبالمقابل فإن السلطة لم تنشئ حزبها، على غرار أنظمة عربية أخرى، إنما جرت العادة أن تتعامل مع الأحداث والكتّاب على حد سواء بالقطعة، ولا يعتد كثيراً بما كتبه بعضهم تقرّباً منها، ولا تحتفي به الذاكرة الشعبية أو الرسمية كذلك.
مفارقة تستحق الالتفات إليها حين يذكر أكثر من أديب أو باحث قدّم أعمالاً تمجّد الحكْم، لكنه بالمقابل احتفظ بكتابات غير منشورة تناقض كل ما جاهر به من مدائح، وقد يأتي يوم ترى فيه هذه المخطوطات النور.
ريثما تنضج صلة الثقافة بالسلطة ستبقى حاضرة بقوة كلما رحل مثقف أردني، وربما كان رحيل ناصر الدين الأسد استثنائياً في هذا السياق، إذ يمثل تصالحاً في صلته مع سلطة قدّرت إنجازاته وإمكاناته، لا فائض الإنشاء والخطابات الرنانة كما فعلت مع آخرين. ويرتبط نموذج الأسد بعوامل شخصية وأخرى لها علاقة بمرحلة تأسيس الدولة.
في مقام الموت تبدو الحقيقة قاسيةً، ومهما حاولت ذكْر محاسن الفقيد تنفتح الحسابات مثل جرح؛ النجاة منها تبدو مستحيلة حين يواجهك سؤال: لماذا يُهمل ما يقدمه الكتّاب الأردنيين من قيمة أدبية وفنية واختصاره بقراءة لا علاقة للثقافة بها، فلا يناقش منجزهم الإبداعي في أثناء حياتهم، ولا تنصف تجاربهم عقب موتهم!
عزفت عواصم الثقافة عن قراءة الأدب الأردني رغم اهتمامها بنصوص أقل شأناً لدى كتّابها، غير أن ذلك لا يبرر ضعف الحركة النقدية في الأردن، وعدم مغادرتها دائرة المجاملات والكتابة في المواسم؛ احتفالات التأبين والتكريم الرسمية، التي يلتقي فيها النقاد على ثرثرات عابرة حول الصفات الإنسانية والحوادث الشخصية التي جمعتهم بالشخصية المؤبّنة أو المكرّمة، وبذلك لا يمكن مطلقاً فصل نظرتنا إلى أدبنا عن الصورة التي شكّلها عنه الأشقاء العرب.
نظرة نرفض تجاوزها، ولنتذكّر لحظة وفاة الشاعر حبيب الزيودي عن عمر يناهز 49 عاماً، منذ أقل من أعوام ثلاثة، حين تنازعه من أراد اختطاف الشاعر من إبداعه لمصلحة مشاريع سياسية، أو من يرغب محاكمته وإلغاء تجربته بسبب قربه من السلطة.
أبرز هذه المشاريع تمثلت بمحاولة بعضهم تثبيت رواية تأسيسية للأردن الحديث تتسم بالانغلاق والإقليمية، وغالباً ما كان يُبرر طرحهم عبر اتهام السلطة بتجاهل تاريخ البلد وأهله، وتأكيدها الدائم على دورها الحصري في التأسيس، لكن لم يلتفت هؤلاء إلى أنهم ساهموا في انتصار الرواية الرسمية عبر تحجيمهم للشخصيات التي ركزوا عليها مثل عرار وتيسير سبول وحتى غالب هلسا، وتحويلهم قسراً إلى مجرد أدباء همهم الرئيس التغني ببلدهم، وتجسيد هوية وطنية لمجتمهم.
التعسف في اختيار أسماء بعينها، وقراءة منتجها للوصول إلى أحكام معدة سلفاً، لا ينفصلان عن التشوّه والاضطراب الحاصل في علاقة المثقف الأردني بالسلطة، على نحو مغاير وخاص مقارنة ببقية المثقفين العرب، وهو ما يتطلب إعادة نظر في طبيعة "السؤال الأردني" لدى روائي وناقد فذّ مثل غالب هلسا، الذي لم يستطع أن يقرأ وطنه إلاّ في مرحلة متأخرة من حياته - رواية "سلطانة" وعدد من قصصه القصيرة - وكانت قراءة قلقة تعبّر عن تحولات اجتماعية عميقة لا يمكن لها أن تصب في خانة يقين سياسي "مبتذل".
ويحضرنا هنا مؤنس الرزاز، أحد أبرز الأدباء الذين جرى تغييبهم - قسراً - ضمن مشروع تثبيت الهوية الوطنية، المشار إليه، فقد عاش انفصامات وتحولات تتماهى مع اضطرابات عمّان في اتصالها مع الجغرافيا المحيطة وابتداعها عزلة باردة موحشة تحفّز مبدعيها، القادمون من أمكنة بعيدة عنهم وغير متحققة، على التذكر والكتابة.
احتشدت أعمال مؤنس بنقد قاسٍ ولاذع للقبيلة التي تأبى التمدن في جميع بلداننا العربية، والتحديث الذي يفتقر للحداثة، والبشر الذين يُخفون عجزهم بادعاءات الفحولة، وللأمكنة التي تتقاعد غير قادرة - رغم قِدمها - أن تنافس ناطحة سحاب لم يغادر ساكنوها خيمتهم بعد.
ثمة نصوص وتجارب مميزة لكتّاب فرّوا إلى "ملاذات" أكثر قلقاً وحيرة، ولم تأخذ حقها في القراءة والدرس أيضاً، فلا يمكن إغفال اشتغالات زياد العناني في قصائده التي تحتفي بخساراته وترسم امرأة غائبة ووطناً مشتهى.
في المقابل، يظلّ "السؤال الأردني" حاضراً لأسباب متنوعة، ويحيلنا إلى التباسات لا نجدها لدى أدباء عرب رصدوا المتغيرات الاجتماعية والسياسية في أوطانهم، بينما لم نر أعمالاً تعاين التحولات الهامّة المرتبطة بنشأة الدولة الأردنية، مثل التي قدّمها هلسا وأعمال محدودة لكتّاب لاحقين، لنلاحظ أن التواطؤ لا يقف عند حدود العلاقة مع السلطة، بل يتجاوزها إلى العلاقات بين مكونات المجتمع الأردني الواحد.
يعيدنا هذا التواطؤ إلى تلك القصص التي نشرها مصطفى وهبي التل (عرار) في جريدة "الكرمل" الحيفاوية بأسماء مستعارة، وإصراره حتى وفاته على القول إن أغلبها نصوص مترجمة، مع أنه عالج بصورة مكشوفة قضايا اجتماعية وسياسية محلية، وبعض شخصيات قصصه، التي ادّعى أنها مترجمة، كانت حقيقية، وهو ما ينبئ بطبيعة علاقته المضطربة بالسلطة، التي لم تستقر يوماً على حال أو وصف.
بالرغم من تأخر ظهور السرد الأردني، مقارنة بالشعر، إلاّ أن الأحداث والوقائع المرتبطة بالسلطة بقيت شبه غائبة عن الرواية والقصة القصيرة، ويتندّر بعضهم بأن الملك حسين لم يُذكر مرة واحدة في عمل روائي، وهو الذي حكم 47 عاماً، ولم تكن تداعيات نكسة حزيران مباشرة وواضحة بقوة - مع استثناءات قليلة مثل رواية "أنت منذ الآن" لسبول - مثلما أثرت في المنجز الروائي العربي بشكل عام.
فلسطين تطل قضية أساسية في الثقافة الأردنية، وربما شكّلت "مأمناً" لكتّاب لا يريدون مواجهة سؤالهم الأردني، بغض النظر عن موقعهم الاجتماعي والسياسي، ولا تُنكر النقلة التي أحدثتها في المشهد الأدبي، وبغض النظر عن تعقيد العلاقة الأردنية الفلسطينية، لكن ذلك منح الإبداع الناتج عنها ميزة صبغت أعمال عيسى الناعوري منذ روايته الأولى "بيت وراء الحدود"، وقصص محمود سيف الدين الإيراني وخليل السواحري التي تتبعت انتهاكات الاحتلال من جهة، والمصير المشترك لمكوني الشعب الأردني في دولته الناشئة.
في مرحلة لاحقة، حاولت الحركات اليسارية والقومية بمن انضوى تحت رايتها من أدباء وفنانين، أن يضيفوا تعبيرات جديدة تتصل بالصراع الطبقي إلى جانب تصويرهم للكفاح المسلح ضد الصهاينة، لكنها لم تحدث أثرها المطلوب، بل وربما ضاعفت من حدة الالتباس الحاصل بين المثقف والسلطة، وبين المثقف ومجتمعه بالنظر إلى مجمل التجارب التي نشرت ما بين 1967 وإنهاء الأحكام العرفية مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
في العقدين الأخيرين، برزت تطورات ملموسة في البنية الفنية للعديد من الكتّاب الأردنيين على مستوى الشعر والرواية والقصة، وربما تقدم بعض نتاجهم المشهد العربي، وإن لم يحدث فارقاً كبيراً في الصورة الإجمالية حول المثقف والثقافة الأردنية، كما أن معظمه بدا مراوغاً في تعامله مع هواجس أساسية في المجتمع.
"السؤال الأردني" لا يقع في إطار الترف من البحث، إنما هو حاجة ملحة لإنهاء علاقة مضطربة بين النص والمكان والسلطة، واقتراح إجابات متعددة ولا نهائية له كاستجابة لمجموع المتغيرات الكبرى التي تعصف بالمنطقة كلها، وهي حتماً ستتضمن استشرافاً أو حدوساً بما ينتظرنا في القادم من الأيام.