مبادرة وراء أخرى، تتعثر محاولات المعارضة المصرية، المنحازة لخيار الثورة والرافضة لانقلاب 3 يوليو/تموز 2013، في تحقيق اختراق على المستويين السياسي والجماهيري لقوى الثورة المضادة؛ إذ شهدت الساحة السياسية المصرية إطلاق العديد من المبادرات الهادفة إلى توحيد قوى الثورة، بداية من "بيان القاهرة" الصادر فى مايو/أيار من عام 2014 والذى دعا فيه الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، والسفير إبراهيم يسري والشاعر عبدالرحمن القرضاوي، إلى تحالف جديد ينتصر لثورة يناير 2011، وعقب تلك المبادرة صدر ما يعرف "بوثيقة بروكسل" في مايو/أيار من عام 2014، بهدف "استعادة ثورة 25 يناير 2011 من خلال التحالف لإسقاط الانقلاب العسكري ثم الشروع في بناء نظام سياسي متكامل".
فى يناير/كانون الثاني من عام 2015، أطلقت بعض القوى الثورية مبادرة "احنا الحل" من برلين؛ داعية إلى توحيد كل القوى الثورية الموجودة في مصر وخارجها من أجل إسقاط الانقلاب وبناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، كما تضمنت المبادرة فكرة تشكيل حكومة جديدة برئاسة الدكتور أيمن نور، وفى فبراير/شباط من عام 2016 أصدر الوزير السابق محمد محسوب مبادرة "الإفلات من السقوط"، حدد لها ثمانية مبادئ مطالبا بضرورة إشراك كل المتطلعين للحرية والعدالة الاجتماعية في عملية التغيير الثوري، ثم جاء الإعلان عن "مبادرة واشنطن" في سبتمبر/أيلول الجاري، والتي أطلقها عدد من قوى المعارضة بالخارج لبحث التوصل إلى مشروع مبادرة مقترحة لإيجاد توافق وطني يقود إلى ديمقراطية حقيقية.
اقــرأ أيضاً
إمبراطورية غولن [4/8]..انطلاقة في عهد مبارك وتوسُّع بزمن السيسي
3 أسباب لفشل المبادرات
بحسب ما تمخضت عنه نتائج هذه المبادرات يمكن القول، إن جميعها تعثرت في إحداث أي اختراق سياسي يُذكر على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لعدة أسباب منها، التعجل في الحصول على النتائج بدون العمل الجاد على بناء استراتيجيات وآليات قادرة على تفعيل هذه المبادرات على المستوى السياسي والجماهيري عبر النقاش والحوار العميق والمستمر بين القوى السياسية المهتمة بالتغيير، والوقوع في فخ الدعاية الإعلامية؛ إذ إن العديد من هذه المبادرات كان يهدف إلى جذب أنظار وسائل الإعلام والصحافة وإثارة النقاش الإعلامي الصاخب متغافلاً عن أن العمل السياسي الجاد والمؤثر عادة ما يحتاج البعد عن الأضواء وصخب الإعلاميين والصحافيين عند إعداده، وعدم إجابة المبادرات على الأسئلة المركزية؛ إذ أن الإخوان المسلمين على سبيل المثال، لديهم مطلب سياسي واضح هو "عودة الرئيس مرسي للحكم" والقوى المدنية الثورية ترى أن عودة مسار الديمقراطية أهم من عودة الرئيس مرسي، فما هي مقاربة المبادرات لحل هذه القضية؟
ويؤكد باحثون ومختصون، أن الإجابة عن سؤال كيف يمكن خلق مبادرات ناجحة، قادرة على إحداث اختراق حقيقي لساحة الثورة المضادة، أمراً يستحق الاهتمام والتركيز، ويمكن تحديد شروط نجاح المبادرات في خمس عوامل رئيسية، تتناولها السطور التالية:
أولاً: التنازل عن الحلول الجذرية
يرى الباحث التونسي حسن بن حسن، "أن بناء التوافقات والمبادرات الناجحة بين الفرقاء السياسيين، في مراحل التحول الديمقراطي، ينبغي أن يبتعد عن استراتيجية، تمسك كل فصيل برؤيته للحلول الجذرية"، وأضاف "على سبيل المثال، التجربة التونسية في بناء التوافق والحوار بين القوى السياسية المعارضة، لنظام المخلوع زين العابدين بن علي، تنازلت عن فكرة الحل الجذري، وعلى رأسها حركة النهضة، وشركاؤها السياسيون من القوى العلمانية والليبرالية واليسارية، وهو ما تجلى فى بناء الدستور التونسي الجديد، إذ وافقت حركة النهضة على الاحتفاظ بالفصل الأول من الدستور التونسي لسنة 1959، والذي لا ينص على أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع، وفي المقابل تخلت القوى العلمانية واليسارية على بند حذف الإسلام كدين للدولة، واتفق الجميع على أن يكون النص الدستوري وفق هذه الصيغة التوافقية "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها" وأضاف إليه عبارة "لا يجوز تعديل هذا الفصل".
اقــرأ أيضاً
مصر.. الإعلام يخفي الرتبة العسكرية لجنرال مدان بالارتشاء
ثانياً: المسؤولية السياسية
يقود عدم التخلي عن فكرة الحلول الجذرية، إلى تمسك كل تيار واتجاه سياسي، بما يُعرف بأخلاق المعتقدات والتي تعني إجرائياً التمسك بالموقف الأيديولوجي والسياسي، بغض النظر عما ينتج عنه من تضحيات، على مستوى الأفراد والمجتمع والوطن؛ فالإخوان المسلمون يتحركون داخلياً وخارجياً، بمبدأ الأخلاق المُنبثقة من التمسك بالحل الجذري، وهو "عودة الرئيس مرسي للحكم" وهو ما كلفهم الكثير من الدماء والسجناء والشهداء سابقاً ويقف عقبة الآن أمام توصلهم إلى اتفاق تاريخي، مع القوى الثورية المدنية المعارضة للانقلاب، والتي تعاني هي الأخرى من أدواء عدم التحلي بأخلاق المسؤولية السياسية، والإغراق في ساحة مستندة إلى فكرة الحل الجذري القائم على مبدأ فصل الدين عن الدولة؛ ويمكن القول إن الطرفين كثيف الحمولة الأخلاقية في هذا الإطار؛ وبناء التوافق والتحالف من أجل مستقبل مصر يستلزم التحلي بأخلاق المسؤولية السياسية، بعيداً عن التشبث بأخلاق المعتقدات الذاتية التي ربما تصلح في الحفاظ على التماسك الحزبي والتنظيمي، ولا تفيد في تشييد الجسور بين الفرقاء.
ثالثاً: اعتبار التوافق والحوار مساراً استراتيجياً
يتوقف نجاح القوى الإسلامية والمدنية المعارضة للانقلاب، في بناء تحالف سياسي واعد، على اعتبار أن التواصل والحوار والتوافق مسار استراتيجي، وليس حدثاً إعلامياً خاطفاً، فالحوار والتحالف بين القوى السياسية المصرية المختلفة سابقاً جاء معظمه تحت ضغط الاستبداد والسجون من قبل نظام حسني مبارك (نموذج حركة "كفاية" الجمعية الوطنية للتغيير)، ثم بعد انتهاء هذه الضغوط لم تكمل القوى الإسلامية والمدنية مسيرة اللقاء والتوافق بشكل أعمق؛ وهو ما يعد نقيضا لتجربة تيارات المعارضة في تونس، والتي بدأت الحوار السياسي الواسع والعريض منذ وثيقة 18 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2005 والتي جمعت أغلب الأحزاب والحركات المعارضة لبن علي وشملت كلاً من (الحزب الديمقراطي التقدمي، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية وحزب العمال الشيوعي التونسي والوحدويين الناصريين بتونس، إضافة لعدة مستقلين).
اقــرأ أيضاً
سيناء ونساء داعش..دوافع عدة قادتهن للوقوع في شباك التنظيم
رابعاً: الانحياز للقيم وليس للأيديولوجيا
يتطلب بناء التوافق وصناعة مبادرة سياسية تاريخية، تجمع القوى المعارضة للانقلاب، التحرر من كثافة الأيديولوجية التي تحجب الرؤية؛ وعلى سبيل المثال فإن الإخوان المسلمين، يؤمنون بأن الصراع في مصر "حرب على الإسلام واستهداف للهوية الإسلامية!"، والفريق الليبرالي واليساري المعارض للانقلاب لا يعترف بهذا التفسير لطبيعة الصراع في مصر، ويتعامل مع الأزمة من منطلق سياسي براغماتي، وهاتان الرؤيتان لطبيعة الصراع تتطلبان نقاشات عميقة، ربما لا يتحمل الوضع السياسي القائم الخوض فيها؛ وبالتالي يكون الانحياز للقيم مثل (الديمقراطية، والحرية ، والمساواة) أو العودة لقيم ثورة 25 يناير (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) هو السبيل الأسرع لإنجاز أي تحالف، بعيداً عن الإغراق في متاهات الأيديولوجيا، وقد جسد الشيخ راشد الغنوشي هذا الشرط عندما قدم تنازلات سياسية كبيرة لصالح قوى سياسية تونسية متعارضة مع النهضة من حيث الأيديولوجيا، قائلا: "أقدمنا على مصافحة أيدٍ كنا نستنكف من مصافحتها من موقع الخصومة السياسية، إذ رأينا في ذلك مصلحة البلد.. بل ذهبنا أبعد من ذلك إلى الانتقال بالعلاقة من موقع الصدام والتنافي إلى موقع التوافق والتعاون والمشاركة السياسية".
خامساً: حل معادلة وزن الفيل وتأثير الفراشة
لا شك في أن وضع آلية إجرائية، تجيب على سؤال حجم الحركات السياسية وتأثيرها الميداني، على بناء التحالفات، يعتبر لبنة مركزية في نجاح عملية بناء تحالف وتوافق قادر على الفعل والاستمرار؛ ففي ورشة عمل (إمكانيات اللقاء الإسلامي- الليبرالي في السياق العربي) المنعقدة في إسطنبول في مايو/أيار الماضي، طلب علي عبدالفتاح، عضو المكتب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، من الحضور الانتباه لحجم وقدرة جماعة الإخوان التنظيمية والعددية وضرورة وضع هذا في الحسبان عند الحديث عن أي تحالف قادم! وكان رد الدكتور أيمن نور رئيس حزب غد الثورة عليه: "إن حركة كفاية على الرغم من صغر حجمها وأنها تكاد تكون بوزن الفراشة إلا أن أثرها على نظام مبارك كان واضحاً وملموساً ربما أكثر من أحزاب وحركات كبيرة وقديمة؛ وبالتالي تصبح الإجابة عن سؤال التمثيل النسبي للقوى المشاركة، وكيف يقدر ويحسب؟ وتأثير ذلك على قضية التضحيات والمآلات قضية شائكة وعقبة أمام إتمام أي تحالف في المستقبل ما لم يتم الاتفاق على آلية واضحة ومحددة".
مما سبق يمكن القول إن بناء التحالفات والتوافق بين القوى السياسية والأيديولوجية والمجتمعية المصرية، ينبغي أن يكون مساراً ممتداً ومتواصلاً، خاضعاً لشروط النجاح ومبتعداً عن الدعاية الإعلامية والأحلام الوردية.