في الطريق إلى جبل سنجار حفر النازحون الأيزيديون بأياديهم قبوراً جماعية لأطفالهم الذين قضوا من الجوع والعطش في رحلة الهرب من تنظيم "داعش"، العديد منهم قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
وبمواكبة رحلة "الخروج الكبير" للأيزيديين من قراهم في شمال العراق، بثت وسائل إعلام أميركية دعاية مصورة لمساعدات غذائية تلقيها الطائرات العسكرية للنازحين المحاصرين، لكن المفاجأة أن معظم هذه المساعدات لم تصل للأيزيديين، كما كشف تحقيق ميداني لـ"العربي الجديد" من جبل سنجار.
ذهبنا إلى جبل سنجار برفقة وحدات الدفاع عن الشعب الكردي لإنقاذ الأيزيديين المحاصرين أعلى الجبل، في رحلة استغرقت يومين، من التنقل بالسيارات والسير على الأقدام في طرق وعرة وشبه صحراوية، للوصول إلى أقرب تجمع بشري من الأيزيديين المحاصرين بين مطرقة "داعش" وسندان الجوع والعطش والمرض والطقس السيئ.
أثناء صعودنا إلى الجبل توقفنا عند بشار الحسكي ومجموعته من المقاتلين الأكراد السوريين التابعين لوحدات الدفاع الكردية السورية المسماة (بيدا)، يسلك الحسكي ومجموعته الطريق الفاصل بين الحدود السورية – العراقية، وتحديداً من ريف "الحسكة" إلى محيط جبل سنجار في مهمة متكررة لاصطحاب قوافل النازحين تمهيداً لإعادتهم إلى مدينة "ديريك" في الداخل السوري، وهناك يجري توزيعهم في مجموعتين، إحداهما تدخل الى مخيم "نوروز" في ريف الحسكة في شمال شرق سورية وأخرى يتم نقلها إلى مدينة "زاخو" في محافظة دهوك بإقليم كردستان شمالي العراق.
على طول الطريق الترابي الذي يخترق الحدود بين العراق وسورية، يمكنك أن تشاهد خطاً بشرياً طويلاً ممتداً من نازحي الأيزيدية، بعض النازحين من ذوي الحالات المرضية والإنسانية يبحثون عمن يحملهم، "المحظوظ منهم يجد توصيلة بالعربات المكشوفة أو الجرارات الزراعية، وحتى رافعات البناء" يقول الحسكي، فيما يزحف عدد أكبر من الهاربين سيراً على الأقدام تحت شمس حارقة ورياح ترابية شديدة؛ تسببت بإصابة معظمهم بحالات الجفاف الحادة وأعراض مرضية متنوعة.
ينصحنا بشار الحسكي بالانتظار وتوفير العواطف حتى رؤية مناظر أشد إيلاماً في سفح الجبل، حيث يتواجد نازحون لم يذوقوا طعاماً حقيقياً منذ عشرة أيام أو أكثر، فضلاً عن الماء الذي تقاسموه بالقطرات في ما بينهم ليصمدوا حتى وصول النجدة إليهم، مبيناً أن القصص التي شاهدوها في جبل سنجار لا يمكن لعقل تصديقها سواء على مستوى موت الأطفال أو النساء.
وصلنا إلى أقرب منطقة إجلاء للنازحين قرب جبل سنجار (أو شنكال باللغة الكردية)، وهي نقطة ذات طبيعة وعرة للغاية، تسود فيها حالة هرج شديدة؛ ناجمة عن أصوات الاشتباكات الممتزجة بصراخ الأطفال وصيحات الاستغاثة مع أصوات عناصر الحماية الكردية، الذين يقومون بتوجيه المجاميع وإرشادهم للانتظام من أجل العودة بهم إلى الداخل السوري بعد توزيع مساعدات عاجلة وبسيطة. هنا يودعنا الحسكي الذي يخبرنا أن مهمته تنتهي إلى هنا، أوصى بنا الحسكي في المنطقة من أجل إنجاح مهمتنا للصعود إلى سنجار.
بعد ساعات من المسير الشاق وجلسات الاستراحة المتقطعة، قال لنا دليلنا الجديد، وهو شاب أيزيدي يدعى بركات شاقولي، إننا اقتربنا من أول تجمع للنازحين، وهم مجموعة من الرجال الذين عمدوا إلى الاكتفاء بمكان منخفض في سنجار، فيما نقلوا النساء والأطفال إلى مكان أكثر ارتفاعا لتأمينهم هناك.
يقدمنا مرافقنا إلى رجل متوسط في السن يرتدي ملابس رثة وعلى كتفه بندقية كلاشنكوف قديمة، يعرف الرجل نفسه قائلاً "اسمي أكرم شنكالي، أتولى مهمة التنسيق بين أغلب نازحي الجبل ومقاتلي الحماية الأكراد الذين يتوزعون بين جنسيات سورية وتركية، يتولون عمليات الإخلاء بالتنسيق مع قوات البيشمركة التي تقاتل لمشاغلة عناصر "داعش" أسفل الجبل وتأمين أجواء الإخلاء".
لا يجد شنكالي بديلاً لكلماته التي تحشرجت في حلقه سوى الدموع، وهو يرشدنا إلى مكان دفن الأطفال الذين توفوا في الأيام الماضية جراء العطش والجوع.
"أكثر من خمسين قبراً تم حفره ودفنت الجثث بشكل مستعجل ووضعت فوق كل قبر صخرة متوسطة الحجم لتعليمه بها"، يقول شنكالي في حين ينادي علينا أحد النازحين القريبين، ويطالبنا بمشاهدة التقرحات المنتشرة في أغلب جسمه نتيجة أشعة الشمس وحالة الهزال؛ بسبب تناوله أوراق الشجر والحشائش طيلة الأيام الماضية قبل وصول المقاتلين الأكراد من قوات حماية الشعب والبيشمركة.
يتابع شنكالي حديثه قائلاً "خلال الأيام الماضية كنا في مستوى أعلى من الجبل، حيث شهدنا مأساة الوفيات المتتالية، وخصوصاً بين الأطفال، حتى أن إحدى النساء الحوامل توفيت وجنينها أثناء عملية الصعود إلى نقطة أعلى من جبل سنجار للبقاء في مأمن من عناصر داعش".
"معاناة النازحين تزيد وقت الليل، خصوصاً مع ارتفاع أصوات الأطفال بالبكاء جراء الجوع والعطش"، يقول شنكالي وهو يسير معنا، مضيفاً "في النهار يقتصر عملنا على دفن الموتى والبحث عن أي نبات لأكله".
وعن فاعلية المساعدات التي أسقطت عليهم جواً من الطائرات الأميركية والبريطانية والعراقية، كشف شنكالي وعدد من النازحين أنها كانت محدودة للغاية؛ لأن النسبة الأكبر منها سقطت في أودية بعيدة وتعذر الوصول إليها، في حين تمزقت معظم عبوات مياه الشرب نتيجة إسقاطها من ارتفاعات عالية، كانت تحلق فيها تلك الطائرات لتجنب نيران المضادات الأرضية التي يمتلكها مقاتلو داعش.
لا يملك شنكالي إحصاء دقيقاً للمتبقين على جبل سنجار، لكنه دعا أحد مساعديه، ويسمى خيري ممو، لتقدير العدد، فأجاب أنه يصل إلى ألف شخص عالقين في القسم الشمالي من الجبل، وهو عدد بسيط قياساً للقسم الجنوبي الذي يضم عدداً يفوق الخمسة والعشرين ألفاً، يتوزعون في مناطق "سولاغ وأمادين"، إضافة إلى المحاصرين داخل مدينة سنجار، في حين يؤكد استحالة معرفة عدد الضحايا سواء الذين أعدموا بشكل مباشر أو ماتوا جراء الإصابة أو المرض ونقص الغذاء والدواء، ويجزم بأنه لن يقل عن ألف ومائة فرد تم إحصاؤهم بشكل أولي بالتعاون مع من واكبوا الكارثة منذ يومها الأول.
مسنة أيزيدية تشتكي العطش خلال رحلة النزوح |
وبالرغم من إخلاء عدد كبير من النازحين في الجبل، إلا أن ممو يرى حاجة ماسة لتسريع عمليات الإنقاذ؛ لأن هناك من هو في الرمق الأخير من الحياة وشارف على الموت، ولكنه فضل البقاء للمساعدة في تأمين الطريق لخروج النساء والأطفال الذين كانت لهم الأولوية.
ينصحنا المنسق شنكالي بمغادرة المكان مع آخر قافلة من العائدين لهذا اليوم؛ لأن الظروف غير مضمونة ويمكن أن نتعرض لمخاطر غير متوقعة خلال ساعات الليل، ويجبرنا بأدب على إنهاء مهمتنا والعودة بسيناريو معاكس، ومن هذه النقطة انتقلنا إلى دهوك بمرافقة مجاميع الأيزيديين الذين عبروا إلى هناك، بعد تأمين قوات البيشمركة لممر آمن لهم من الحدود السورية.
تسود محافظة دهوك حركة عمل دؤوبة من السلطات المحلية ومنظمات إغاثية كردية وأخرى تابعة للأمم المتحدة من أجل تأمين احتياجات 100 ألف نازح أيزيدي، بالإضافة إلى أعداد أخرى من المسيحيين والعرب الذين وصلوا نازحين إلى دهوك، وتم توزيعهم على مجمعات سكنية مثل "باعذره وشاريا" ومبانٍ حكومية وأماكن متفرقة أخرى.
محافظ دهوك فرهاد الأتروشي طالب في حديث إلى "العربي الجديد" الحكومة المركزية في بغداد، بالتحرك العاجل لإغاثة الأعداد الكبيرة جداً من النازحين، والتي فاقت كثيراً إمكانات المحافظة، مشيراً إلى أنهم أخلوا المئات من المدارس والمباني الأخرى لإسكان العوائل التي لم يجد الكثير منها مأوى، وباتت تسكن في الشوارع والحدائق العامة.
ملامح الحزن والغضب تبدو واضحة هنا على ملامح الأديب الأيزيدي خدر خلات بحزاني، وهو يستعرض لنا مجموعة من القصص القاسية التي تعرض لها أهله بعد هجوم تنظيم داعش على قراهم ومجمعاتهم السكنية، فيما يشدد على أن الحماية الدولية لمناطقهم هي الحل الأمثل للمحافظة على ثقافتهم الممتدة إلى خمسة آلاف سنة.
ويوضح بحزاني أن الأيزيدي، وهي كلمة سومرية تتكون من ثلاث مقاطع (اي زي دي)، وتعني غير الملوث وأن موروثهم الاجتماعي، يقول إنهم تعرضوا في تاريخهم إلى اثنتين وسبعين حملة إبادة، وإنهم اليوم تعرضوا على أيدي داعش للحملة الأكثر دموية التي استهدفت قوماً يؤمنون بالله الواحد الأحد، على حد قوله.
وترى الإعلامية والناشطة الأيزيدية، نارين شمو، أنه من الصعب جداً وصف ما حصل للمكون الأيزيدي عموماً، والمرأة بشكل خاص والتي ارتكبت بحقها أعمال الجاهلية من قتل واغتصاب وبيع وتزويج بالإكراه، فضلاً عن مأساة الأمهات اللواتي شاهدن أطفالهن يموتون أمام أعينهن في جبل سنجار أو طريق رحلة الهروب نحو الأمان.
وبالرغم من مشاهدة شمو لعشرات الحالات الإنسانية الصعبة في حياتها المهنية والجزء الأكبر كان في كارثة سنجار، إلا أنها لا تستطيع نسيان قصة المرأة الأيزيدية التي تركت طفلها في الجبل، وهو ينازع الموت وينزف دماً من فمه بسبب شده البكاء والعطش، وهنا تتحشرج كلمات شمو بعدما اختلط الصوت بنشيج البكاء، ولم يعد من سبيل لإكمال الحوار معها عن المعاناة المستمرة والقاسية لقومها.