وفي الأيام الأخيرة، تحول عباس إبراهيم إلى "دينامو" تأليف الحكومة اللبنانية. تنقّل بين الأطراف السياسية لحلحلة العقد التي تمنع تشكيل الحكومة. أنهى عقدة تمثيل النواب السنة المحسوبين على "حزب الله"، وقبل أن تكبر عقدة أخرى مرتبطة بالتمثيل الأرمني، حط في مقر حزب "الطاشناق" الأرمني طارحاً الحل، ومجهضاً أي عقبة قد تولد في ربع الساعة الأخيرة.
صحيح أن إبراهيم مهّد طريق الحكومة، ومهّد معها طريقه أكثر نحو عالم السياسة بعد سنوات من عالم الأمن والسياسة الخارجية، لكن ذلك لم يمنع كثراً في الساحة السياسية اللبنانية من طرح تساؤلات بشأن الأدوار السياسية المتزايدة التي يؤديها إلى جانب مهماته الأمنية.
في الأمن، يمسك الرجل اليوم ملفين: الأول؛ ملف المخيمات الفلسطينية على الرغم من تراجع دوره فيه نتيجة توليه الأمن العام، والثاني وهو ملف اللجوء السوري، الذي يسمى في لبنان نزوحاً هرباً من التزامات اللجوء. وإبراهيم مكلف من رئاسة الجمهورية اللبنانية بالتنسيق مع سورية، إضافة إلى حضوره في اللجنة الأمنية الروسية – اللبنانية، في مرحلة يتوقع فيها أن يفتح هذا الملف بقوة، نتيجة التطورات في الأشهر الأخيرة على الأرض في سورية.
أما في السياسة، فيمسك الرجل ملف العلاقات اللبنانية – السورية، في مرحلة دقيقة شهدت مناكفات سياسية، على خلفية ضغط فريق حزب الله – التيار الوطني الحر لعودة العلاقات إلى سابق عهدها بين البلدين وتحديداً إلى ما قبل عام 2011، ورفض رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وتهديده يوماً بالبحث عن غيره لرئاسة الحكومة في حال كانت مهمة الحكومة إعادة العلاقات. كان المخرج يومها أن يحال الملف إلى عهدة رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي اختار عباس إبراهيم، بعد الأدوار التي أداها منذ عام 2011 في أكثر من قضية، لعلّ أبرزها قضية مخطوفي أعزاز، وكذلك راهبات معلولا، وقضية المخطوفين اللبنانيين لدى جبهة "النصرة" و"داعش"، على الرغم من بقاء قضية المصور سمير كساب الذي اختطف في سورية متروكة. كما لا يمكن إغفال الدور الذي أداه إبراهيم خلال مرحلة احتجاز سعد الحريري في الرياض في عام 2017.
البعض في لبنان يتحدث عن تجاوز إبراهيم الأصول تحديداً في ملف تشكيل الحكومة، خصوصاً أن مهمة التأليف لا تقع على عاتق مدير الأمن العام، ولا طبعاً حلحلتها، بل على عاتق من يمنحهم الدستور هذه المهمة، أو من يكلفونهم من السياسيين، لكن كل هذا بقي همساً، على اعتبار أن علاقات إبراهيم الداخلية تبدو متينة مع كل الهرم السياسي، من رئاسة الجمهورية، إلى رئاسة مجلس الوزراء، إلى رئاسة المجلس النيابي، وبينها العلاقات مع القيادات اللبنانية وفق التوزيع الطائفي والمناطقي، ما يتيح له القيام بهذه الأدوار السياسية.
وكما في الداخل، نسج إبراهيم شبكة من العلاقات الدولية والإقليمية على مدى سنوات خلال مسيرته، انطلاقاً من مرحلة نهاية الثمانينيات في بداياته العسكرية التي تولى خلالها أمن المبعوث الخاص للجنة الثلاثية للجامعة العربية في لبنان الأخضر الإبراهيمي، وصولاً إلى الملف الفلسطيني الذي كان مسؤولاً عنه مخابراتياً. لكن تمدد هذه الشبكة ترافق مع الحرب في سورية، إذ راكم علاقات تمتد من تركيا إلى قطر وألمانيا وفرنسا فضلاً عن روسيا والولايات المتحدة الأميركية التي يقال إن علاقته بها جيدة، ليكون بذلك رجل الأمن الأول في لبنان بالنسبة إلى المجتمع الدولي بعد مرحلة كان فيها واللواء وسام الحسن الذي اغتيل بسيارة مفخخة في 2012 صاحب هذا الدور. مع العلم أن الحسن وعلى غرار اللواء أشرف ريفي الذي صار لاحقاً وزيراً قبل أن يختلف مع سعد الحريري ويستقيل، أديا أدواراً سياسية في الخفاء خلال مهامهما الأمنية.
وفي التاريخ اللبناني نماذج عدة لرجال أمن تحولوا إلى السياسة، منهم من بات وزيراً أو رئيس حكومة، أو رئيس جمهورية، لكن قلة فقط جمعت بين العمل السياسي والأمني في آن واحد، وبطريقة علنية. لذلك، يحيل الحديث عن أدوار إبراهيم في عالم السياسة إلى المقارنة حتماً بمرحلة أدى فيها رجالات الأمن في لبنان أدواراً سياسية. هي مرحلة الوصاية السورية، التي أنتجت فيها قيادات أمنية بمفعول الحاكمين بأمر دمشق. يومها، ساهموا في تأليف الحكومات، وإقرار القوانين الانتخابية، وكذلك إدارة الشأن العام اللبناني، لكنها كانت أدواراً مفروضة بقوة الحضور السوري. راكم هؤلاء العداوات والخصومات، خصوصاً أن أدوارهم السياسية كانت مترافقة مع ترهيب أمني.
لكن يختلف إبراهيم في هذا الشق عن أقرانه الأمنيين في مرحلة الوصاية. تنقل عباس إبراهيم بين الرتب إلى أن رُقي إلى رتبة لواء في عام 2011. وتنقل أيضاً بين القطاعات والأجهزة الأمنية التي سمحت له ببناء شبكته من العلاقات الداخلية ولاحقاً الخارجية.
البداية في عالم السياسة
بداية دخوله إلى عالم السياسة يمكن إرجاعها إلى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف عندما تولى أمن رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي، ولاحقاً الأمن الشخصي لرئيس الحكومة السابق رفيق الحريري عند ترؤسه الحكومة الأولى (1992 ـ 1995)، قبل أن يعود إلى الأسلاك العسكرية وتحديداً مديرية المخابرات، التي بنى فيها سيرة مهنية طويلة، خصوصاً عندما كان رئيس فرع مخابرات الجنوب ولاحقاً المساعد الأول لمدير المخابرات، قبل أن ينقل إلى مديرية الأمن العام مديراً لها.
ابن كوثرية السياد في جنوب لبنان، والذي يدرك تفاصيل منطقة الزهراني، أمسك بحكم مسؤوليته في مديرية المخابرات بورقة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً ورقة مخيم عين الحلوة (صيدا)، الأكبر في لبنان. نسج خلال هذه الفترة علاقات مع الفصائل الأمنية، وأدى دوره، وصولاً إلى الحديث عن دور له خلال أزمة مخيم نهر البارد (شمال لبنان) التي شهدت معركة بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الإسلام عام 2007 عبر منع امتدادها إلى مخيم عين الحلوة، إضافة إلى أدوار أخرى، لعل أهمها دوره في عملية تبادل جثامين قتلى جيش الاحتلال الإسرائيلي مع أسرى لبنانيين بعد عدوان تموز 2006، وذلك في عام 2008.
كل ذلك أمّن لإبراهيم طريقاً ليكون في لائحة الضباط الشيعة الأبرز، وتالياً مرشحاً لمناصب جديدة. وعندما حان موعد اختيار شخصية شيعية لمديرية الأمن العام، كان إبراهيم أحد أبرز الأسماء التي التقى حولها حزب الله وحركة أمل معاً، فتم تعيينه في عام 2011 في منصب المدير العام لثالث جهاز أمني بعد الجيش وقوى الأمن الداخلي ليستمر في منصبه إلى اليوم، مضيفاً إليها المهام السياسية تباعاً.
العلاقة بين إبراهيم وعون
وتحيل الأدوار التي يلعبها المدير العام للأمن العام بغطاء من رئاسة الجمهورية، على وجه الخصوص إلى الحديث عن علاقاته بميشال عون. يقال إن العلاقة بين الرجلين متينة جداً، ويستند إليها إبراهيم في أداء أدواره السياسية والأمنية، خصوصاً أن عون هو الذي مهّد له الطريق، من الملف السوري بتشعباته إلى ملف الوساطات الحكومية. ويقال أيضاً إنها علاقة قديمة منذ أن منح يوماً تنويهاً من قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون في بداياته العسكرية، يعطف عليها صداقته الشخصية مع النائب شامل روكز، صهر عون، منذ أن كان قائداً لفوج المغاوير قبل انتقاله لقيادة مديرية المخابرات في الجنوب.
لكن العلاقة مع عون ليست وحدها التي أمّنت للرجل دوراً في المعادلة السياسية أكبر من دوره الأمني. لا شك في أنه كان ولا يزال حاجة وضرورة شيعية لـ"حزب الله" وحركة "أمل". لكن العلاقة مع حركة "أمل" ورئيس مجلس النواب نبيه بري وحدها تجذب الأنظار، على اعتبار أن الأنظار في لبنان شاخصة منذ فترة إلى من قد يكون خليفة لساكن قصر عين التينة، وبروز اسم إبراهيم في صدارة القائمة.
في الشكل، تبدو علاقة الرجلين إيجابية وجيدة، خصوصاً أن أحداً في الطائفة الشيعية لا يمكنه أن يكون في مكان إبراهيم، من دون رضى بري أولاً، لكن يصلح القول أيضاً إن هذه العلاقة يشوبها الحذر، والترقب، والذكاء في التعاطي بين الطرفين.
لكن ثمة مؤشرات لا يمكن إغفالها؛ ابن كوثرية السياد في قضاء الزهراني، الذي يعتبر مسقط رأس بري ومعقله السياسي، يفتح من فترة إلى أخرى بيته لاستقبال الناس، على الرغم من أن هذا التقليد اللبناني بات حكراً في الفترة الأخيرة في الزهراني على دارة المصيلح التابعة لبري. لكن، نجل نقيب أصحاب الأفران في لبنان لعقود كاظم إبراهيم، المقتدر ضمن طائفته، يدرك جيداً أنه في بلد تُبنى فيه الزعامات عبر العصب المالي والحظوة في المناطق وضمن الطوائف.