اللغة الأم ورطانة التخوم

18 يناير 2016
محجوب بن بلة / الجزائر (جزء من لوحة)
+ الخط -

خلال الأشهر الأخيرة الماضية، وصل عددٌ هائل من اللاجئين العرب إلى دول أوروبا، ولا يُتقن هؤلاء الوافدون -إلا أقلُّهم-لغات البلدان المُستَضيفة، مثل: الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وسائر لغات أوروبا الشمالية والشرقية. يُشكِّل هذا التلاقي اللغوي، النادر في عصرنا، مشهداً ألسُنياً دقيقاً، تتعرَّض فيه الأبنية الذهنية والخطابية الأصلية إلى اهتزازٍ عميقٍ، فيولِّد هذا التلاقي نشاطاً ذهنيّاً ولسانيّاً تظهر نتائجه على المدى القريب والبعيد.

ويجدر بنا رصد ملامح هذا المشهد والوقوف على آثاره التي تمسّ مكوِّنات الهويّة والتفكير والتعبير. وقد استقينا مادَّةَ مقالنا من دراسة ميدانية سريعة، تتبّعنا خلالها هذه الآثار. فالمُلاحَظ لدى الفئة الأولى، التي تتألّف من شبابٍ سنُّهم بين 24 و28 سنة، سعيُها البطيء إلى تعلُّم لغة البلد المُستضيف، وإن تباينت أبنيتها مع أصوات العربية وتراكيبها ومجازاتها، ويتم ذلك باستخدام ما تيسَّر منها والولوج التدريجي إلى عالمها، ولا سِيما أن المعاملات الإدارية المعقّدة في البلدان الأوروبية تُجبر الوافدين على التكيُّف اللغوي السريع، وقلَّما ترحم أهل الانكفاء.

يمثّل هؤلاء الفئة الثانية التي رصدناها، ويتجاوز سنّها غالباً 28 سنة؛ إذ ينكفئ المهاجرون على ذواتهم، ويقتصرون من لغة المُستَضيف على الضروري منها، حتى تتيسّر أمورُ معاملاتهم اليومية، وهنا يبدو اللسان الأجنبي كغولٍ مرعب، يتهدّد الهوية، بل هو طلسماتٌ لا يلين منها القياد، فيُصار إلى رفضها، والاحتماء بـ "كهوف الماضي"، (والعبارة لمحمد عابد الجابري).

قد يتفاقم شعور الانعزال بما يُحسّه هؤلاء المهاجرون، عن خطأ أو حقّ، بشعور الإقصاء، وما يكابدونه من جارح النظرات إليهم حين يُعتبرون عالةً تُفاقِم أزمات أوروبا، وجحافلَ غُرباء يكتسحون أراضيها، فتُعرقل أحدَهم صحافيةٌ مجرية بائسة، أو يُمَنُّ عليهم بخيمةٍ في بلاد البرد القارس.

ومما يزيد طينهم بلةً -وهم في طين مراكز الإيواء وخيماته- أن يُنظر إلى بعضهم كخطرٍ إرهابيّ، حين تختلط المرجعيات لدى أحزاب اليمين المتطرّف، وتتداخل عنده الصور بين العربية والإسلام والإرهاب. وتصير لغة الوافدين تفكيكاً للغة أهل البلد، وتهديداً لكيان أوروبا الذي تبنيه لبنةً لبنةً على وقع اهتزازات البورصة، وتضخمات اليورو.

وفي الطرف المقابل تماماً، يُلاحَظ لدى بعض المهاجرين (فئة الشباب بين 18 و26 سنة) إقبال كلّي على احتضان اللغة الأجنبية، في مسارٍ يشبه الانتقام من كلّ ما له صلة باللغة الأم؛ كأنّما تُذكِّر عباراتها أليمَ القمع وشديد الأهوال التي دفعتهم إلى ركوب البحر ومفارقة الأهل والخلان، وتحمُّل نظرات الغرب الجارحة.

أبرزُ نتائج هذا التماهي باللغة الأجنبية وفيها، الانخراط في رؤية للعالم جديدة، وفي طرائق التعبير عنها، إذ يصير المتكلّم إلى كونٍ ثانٍ من الرموز والإشارات والدلالات، و"المغلوب مُولعٌ بالاقتداء بالغالب" كما بيّن ابن خلدون.

ولكنَّ أخطر تلك النتائج الانقطاع الوجداني عن الحُمولات العاطفية التي تكتنزها اللغة الأمُّ، ولا سيما في صيغ الحياة اليومية وطرائق التعبير عنها، كالتحية والاعتذار والشكر وأفانين المُجاملة... ولا شكّ أن استخدام بعض الصيغ الأجنبية لا يمنح المتكلّم ما تمنحه إياه الصيغ التي ألفها من لطائف الوجدان ورقائق المعنى، وهو ما يُفقده الإحساسَ بالتوازن النفسي، الذي يقوم في أساسه على التواصل التلقائي باللغة الأم.

على أن المكنز المعجمي سيغتني بسرعة عبر الإدماج اللاشعوري لعشرات الوحدات المعجمية الجديدة، التي لم تكن لها أية مرجعية في اللغة الأم، والمثل الأوضح لهذا الاغتناء المباغت كلماتُ الحياة اليومية مثل: المترو وTGV (قطار السرعة الفائقة) وعشراتٍ أخرى مثلها، تَملأ الوعي وتغيّر مراجعه وتحفر في خبايا الهوية.

ملامسة تخوم اللغات الأجنبية مُخاطرة وأفق. وهي بداية التغيير الجذري لأعماق الهوية، التي تغتني وتتحوَّل، والكلمات آلةٌ ومسارٌ، بها يصير اللاجئ ابن بلدٍ يتقن سلاحاً، الإنسانيةُ مالكُه الأوحد، سمّاه الطاهر بن جلّون "غنيمة حربٍ"، وهي هنا -في حالة ضيوف اللسان- ما يظفره المهاجر حتى اكتسابه حقَّ المواطنة، ومواطنته الحقة جهد دؤوبٌ لتملّك اللغة الأجنبية والثقافة، وعَودٌ مُتجدّد إلى تخوم ذاته العميقة ولغته الأصلية، وحينها قد يدرك أنّ الأنا هو الآخر مُتحوِّلاً في طيَّات ضميره.


اقرأ أيضاً: المستعربون: صور قديمة أقنعة جديدة

المساهمون