19 يناير 2024
اللاعقلانية في السياسة العربية وأزمة الخليج
سادت المدرسة السلوكية في تحليل الأنظمة السياسية في العالم العربي عقوداً، وخصوصاً الأنظمة الشمولية التي سادت في سورية والعراق وليبيا، والتي غاب فيها أي منطقٍ للعقلانية السياسية، يحكم تصرفاتها وقراراتها، وإنما يعود القرار للدكتاتور الحاكم الذي يتخذ قرار السلم والحرب، ويصرف الميزانية كما يحلو له بدون رقابة أو محاسبة، وقد نُشرت كتبٌ كثيرة في تحليل المدرسة السلوكية في هذه الأنظمة.
مع بدء الربيع العربي، بدا أن أفقاً جديداً بدأ يحكم السياسة العربية، خصوصاً مع ارتفاع وعي المجتمعات، وزيادة مشاركتها السياسية بنسبٍ تاريخيةٍ، كما أظهرت أرقام المؤشر العربي الذي يشرف عليه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وزاد الأمل بأن العقلانية السياسية ستكون مركز القرار النهائي في السياسة العربية، لكن ما أظهرته أزمة الخليج أخيرا كان العكس. فما بين يوم وليلة، صحا المواطنون القطريون على أنباء أنهم تحت حصار مطلق، بحري وبري وجوي، لأسبابٍ يجهلونها، واتخذت الإمارات والسعودية، بشكل رئيسي، القرار، من دون دراسة أية عواقب قانونية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية على شركاتها ومواطنيها المقيمين في قطر. بدا القرار صادماً لكثيرين، وأظهر مدى الاستخفاف بالمؤسسات السياسية التي يمكن أن تعقلن هذه القرارات، وتدرس جدواها وفائدتها.
فالاتهام الصاخب لقطر بدعم "المنظمات الإرهابية والطائفية والأيديولوجية"، كما ظهر في مطالب الدول يأخذنا، مرة أخرى، إلى الحجة المفرغة التي نواجهها في العالم العربي، في ما يتعلق بتعريف "الإرهاب" نفسه، لأنه لا يوجد في القانون الدولي ما يمكن أن يُعتمد عليه في تعريف "الإرهاب"، وذلك بسبب النقاش السياسي الطويل بشأن الخلاف بين "منظمات المقاومة" و"الجماعات الإرهابية".
هذا هو السبب في أن كل دولة استبدادية في الشرق الأوسط استخدمت هذا المصطلح للقضاء
على خصومها سياسياً، وحتى جسدياً كما الحال في مصر اليوم، عندما يجادل النظام العسكري المصري اليوم بأن "الإخوان المسلمين" منظمة إرهابية، على الرغم من عدم وجودها في أيٍّ قائمة للأمم المتحدة أو الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة للمنظمات الإرهابية. وهذا هو السبب في أن لا شيء على المستوى القانوني يمكن أن تحاجج به هذه الدول قطر على الامتثال لقائمة الإمارات والعربية السعودية ومصر والبحرين.
كما أن قطر لم تستضف أي أشخاصٍ مدرجين في قائمة الإرهاب الأميركية. ولهذا السبب، لم تتضمن القائمة أسماء مطلوبين على اللائحة الأميركية، بل إن قطر، وبناء على طلب إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، ورغبته في إغلاق سجن غوانتانامو، سلمت الحكومة الأميركية خمسة من المعتقلين السابقين في غوانتانامو إلى قطر، وهذا هو السبب في أن قطر تقدم معروفا لمصلحة الحكومة الأميركية للقيام بذلك، ولا ينبغي انتقادها للقيام به.
وفي ما يتعلق بقائمة أخرى من الأسماء المدرجة في العربية السعودية والإمارات ومصر والبحرين سابقاً، فبعضهم ليسوا قطريين، ولا علاقة لقطر بهم، لأن معظم الجنسيات المدرجة في القائمة من المصريين والسعوديين.
وأخيراً، ليست الحجة القانونية بأكملها قوية، وليست قادرةً على الوقوف في أي محكمة دولية، إذا قرّرت قطر أن تذهب إلى محكمة العدل الدولية للاعتراض على جميع هذه الادعاءات.
على المستوى السياسي، يبدو أن السعودية أضافت أزمة أخرى على قائمتها ، فالتدخل السعودي في اليمن كان مدعوما من دول الخليج، وعربياً بشكل عام، وقانونياً كشكل من رد الفعل على استهداف السعودية بصواريخ الحوثيين. لكن، مع تأخر الحسم في اليمن، وتزايد الكارثة الإنسانية هناك، الأمر الذي صعّب إدارة الأزمة الإنسانية والسياسية والعسكرية في الوقت نفسه، ما وضع السعودية نفسها في تحدٍّ صعب، في إدارة الأزمات مع إيران وسورية في الوقت نفسه، ثم أخيرا قطر.
أما انعكاسات الأزمة الخليجية على سورية فيبدو الأسوأ، فمنذ اتخذت تركيا موقفا داعما لقطر، تضاءل التنسيق الإقليمي بين السعودية وتركيا وقطر لدعم المعارضة المسلحة السورية بشكل
كبير، كما حدث في عام 2014، عندما قرّرت الإمارات والعربية السعودية سحب سفرائها من الدوحة تعبيراً عن الغضب ضد قطر، ودعمها "الإخوان المسلمين" في مصر. في ذلك الوقت، خسرت المعارضة المسلحة السورية أراضٍ كثيرة كانت تسيطر عليها، لكن الأهم من ذلك أن الصراع الإقليمي انعكس على أرض الواقع قتالاً بين الجماعات المسلحة المختلفة، وخسرت المعارضة السورية المسلحة فرصةً كبرى لتوحيد صفوفها تحت قيادة واحدة في ذلك الوقت، وإلى الأبد.
الآن، الصدع بين القطريين والسعوديين أصعب بكثير، بل اتخذ وجهاً لا إنسانياً بفرض حصار كامل على قطر منذ الخامس من يونيو/ حزيران، ما يعني أن أي وسيلةٍ للتعاون في أي مناطق أخرى، مثل سورية، والمساعدة الإنسانية في سورية ستتأثر، وقد تكون تنتهي تماماً.
من ناحية أخرى، غيّرت تركيا بالفعل أولويتها من تغيير النظام في دمشق إلى منع وجود أي مناطق يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، أو النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني، والتي تعتبرها تركيا منظمةً إرهابية، والتغيير في الأولويات في المخيم الإقليمي انعكس على الأرض في سورية، حيث انتقلت قوات النظام من أن تكون على الجانب الدفاعي في عامي 2014 و 2015، لتصبح هجوميةً مع تقدم القوات الحكومية في حلب والمنازل، وعلى الأرجح في درعا، في الأشهر المقبلة.
الآن، كان بالإمكان تجنب هذه التداعيات السياسية والإقليمية لو حكمت العقلانية السياسية القرارات العربية، وبمجرّد أن تطول هذه الأزمة في الخليج، ستصبح التداعيات الإقليمية أكثر سوءاً. ومع وجود رئيس في الولايات المتحدة لا يؤمن كثيرا بالعقلانية السياسية، تصبح المهمة أكثر صعوبة، لكن ما يخفّف الأمر في واشنطن بالطبع وجود المؤسسات المستقرة، وعمرها المديد الذي يمنع تغوّل السلطة التنفيذية، ويحدّ من غلوائها، بيد أن غياب الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة فقط على أساس أنها منطقة ثرية بالنفط، وعليها أن تكون مصدرا للأموال للإدارة الحالية، كما يراها ترامب، أضعف المؤسسات الأميركية، وأظهرت الأزمة الخليجية عمق الانقسام الأميركي في هذا الشأن بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض.
.. ما كان ينطبق على السياسة العربية، من ناحية دراستها وفق مبدأ المدرسة السلوكية، لا يبدو بعيداً عن دراسة السياسة الأميركية اليوم بالمنظار نفسه.
مع بدء الربيع العربي، بدا أن أفقاً جديداً بدأ يحكم السياسة العربية، خصوصاً مع ارتفاع وعي المجتمعات، وزيادة مشاركتها السياسية بنسبٍ تاريخيةٍ، كما أظهرت أرقام المؤشر العربي الذي يشرف عليه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وزاد الأمل بأن العقلانية السياسية ستكون مركز القرار النهائي في السياسة العربية، لكن ما أظهرته أزمة الخليج أخيرا كان العكس. فما بين يوم وليلة، صحا المواطنون القطريون على أنباء أنهم تحت حصار مطلق، بحري وبري وجوي، لأسبابٍ يجهلونها، واتخذت الإمارات والسعودية، بشكل رئيسي، القرار، من دون دراسة أية عواقب قانونية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية على شركاتها ومواطنيها المقيمين في قطر. بدا القرار صادماً لكثيرين، وأظهر مدى الاستخفاف بالمؤسسات السياسية التي يمكن أن تعقلن هذه القرارات، وتدرس جدواها وفائدتها.
فالاتهام الصاخب لقطر بدعم "المنظمات الإرهابية والطائفية والأيديولوجية"، كما ظهر في مطالب الدول يأخذنا، مرة أخرى، إلى الحجة المفرغة التي نواجهها في العالم العربي، في ما يتعلق بتعريف "الإرهاب" نفسه، لأنه لا يوجد في القانون الدولي ما يمكن أن يُعتمد عليه في تعريف "الإرهاب"، وذلك بسبب النقاش السياسي الطويل بشأن الخلاف بين "منظمات المقاومة" و"الجماعات الإرهابية".
هذا هو السبب في أن كل دولة استبدادية في الشرق الأوسط استخدمت هذا المصطلح للقضاء
كما أن قطر لم تستضف أي أشخاصٍ مدرجين في قائمة الإرهاب الأميركية. ولهذا السبب، لم تتضمن القائمة أسماء مطلوبين على اللائحة الأميركية، بل إن قطر، وبناء على طلب إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، ورغبته في إغلاق سجن غوانتانامو، سلمت الحكومة الأميركية خمسة من المعتقلين السابقين في غوانتانامو إلى قطر، وهذا هو السبب في أن قطر تقدم معروفا لمصلحة الحكومة الأميركية للقيام بذلك، ولا ينبغي انتقادها للقيام به.
وفي ما يتعلق بقائمة أخرى من الأسماء المدرجة في العربية السعودية والإمارات ومصر والبحرين سابقاً، فبعضهم ليسوا قطريين، ولا علاقة لقطر بهم، لأن معظم الجنسيات المدرجة في القائمة من المصريين والسعوديين.
وأخيراً، ليست الحجة القانونية بأكملها قوية، وليست قادرةً على الوقوف في أي محكمة دولية، إذا قرّرت قطر أن تذهب إلى محكمة العدل الدولية للاعتراض على جميع هذه الادعاءات.
على المستوى السياسي، يبدو أن السعودية أضافت أزمة أخرى على قائمتها ، فالتدخل السعودي في اليمن كان مدعوما من دول الخليج، وعربياً بشكل عام، وقانونياً كشكل من رد الفعل على استهداف السعودية بصواريخ الحوثيين. لكن، مع تأخر الحسم في اليمن، وتزايد الكارثة الإنسانية هناك، الأمر الذي صعّب إدارة الأزمة الإنسانية والسياسية والعسكرية في الوقت نفسه، ما وضع السعودية نفسها في تحدٍّ صعب، في إدارة الأزمات مع إيران وسورية في الوقت نفسه، ثم أخيرا قطر.
أما انعكاسات الأزمة الخليجية على سورية فيبدو الأسوأ، فمنذ اتخذت تركيا موقفا داعما لقطر، تضاءل التنسيق الإقليمي بين السعودية وتركيا وقطر لدعم المعارضة المسلحة السورية بشكل
الآن، الصدع بين القطريين والسعوديين أصعب بكثير، بل اتخذ وجهاً لا إنسانياً بفرض حصار كامل على قطر منذ الخامس من يونيو/ حزيران، ما يعني أن أي وسيلةٍ للتعاون في أي مناطق أخرى، مثل سورية، والمساعدة الإنسانية في سورية ستتأثر، وقد تكون تنتهي تماماً.
من ناحية أخرى، غيّرت تركيا بالفعل أولويتها من تغيير النظام في دمشق إلى منع وجود أي مناطق يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، أو النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني، والتي تعتبرها تركيا منظمةً إرهابية، والتغيير في الأولويات في المخيم الإقليمي انعكس على الأرض في سورية، حيث انتقلت قوات النظام من أن تكون على الجانب الدفاعي في عامي 2014 و 2015، لتصبح هجوميةً مع تقدم القوات الحكومية في حلب والمنازل، وعلى الأرجح في درعا، في الأشهر المقبلة.
الآن، كان بالإمكان تجنب هذه التداعيات السياسية والإقليمية لو حكمت العقلانية السياسية القرارات العربية، وبمجرّد أن تطول هذه الأزمة في الخليج، ستصبح التداعيات الإقليمية أكثر سوءاً. ومع وجود رئيس في الولايات المتحدة لا يؤمن كثيرا بالعقلانية السياسية، تصبح المهمة أكثر صعوبة، لكن ما يخفّف الأمر في واشنطن بالطبع وجود المؤسسات المستقرة، وعمرها المديد الذي يمنع تغوّل السلطة التنفيذية، ويحدّ من غلوائها، بيد أن غياب الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة فقط على أساس أنها منطقة ثرية بالنفط، وعليها أن تكون مصدرا للأموال للإدارة الحالية، كما يراها ترامب، أضعف المؤسسات الأميركية، وأظهرت الأزمة الخليجية عمق الانقسام الأميركي في هذا الشأن بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض.
.. ما كان ينطبق على السياسة العربية، من ناحية دراستها وفق مبدأ المدرسة السلوكية، لا يبدو بعيداً عن دراسة السياسة الأميركية اليوم بالمنظار نفسه.