اللاجئون الفلسطينيون قبل وبعد أوسلو

25 يونيو 2020
هدفت خطة ترامب إلى تصفية حق العودة قانونياً(مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -
في السيرورة التاريخية للاجئ الفلسطيني نجد أن ذاكرة التحدي تسكنه، أو ما سماه إدوارد سعيد "منطق الأضداد"، بوصفها ذاكرة تنطلق من المكان المؤقت والآني القاسي، مخيم/ موقع اللجوء، لتسافر عبر الحلم إلى المكان الأم والأول. فالحنين المستمر إلى الزمان والمكان الأولين، يأتي عبر التداخل والاختلاط، وعبر النبش في التاريخ، وفي الذاكرة بين مكانين وبين زمنين، بإدامة الهوية المتخيلة للاجئين، وبمعنى آخر "تقديس ما كان" أصبح المصدر لخلق ذهنية عامة ووعي الذات والعلاقة مع الآخر.

هكذا يلعب اللاجئون الفلسطينيون دورا مركزيا هاما على امتداد مراحل الصراع العربي – الإسرائيلي، دورهم في بناء وتشكيل منظمة التحرير وهيكلتها وتنظيمها كذلك، وأيضا من خلال دورهم المركزي في مسار حركة التحرر الوطنية وفي الكفاح المسلح في الأردن ولبنان ومساهمتهم في تطوير وبناء مجموعات فدائية داخل فلسطين المحتلة، وفتح علاقات وثيقة مع قوى التحرر العالمية كان لها بالغ التأثير على أوضاع وظروف الفلسطينيين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بينما جاءت اتفاقيات التسوية بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني ليتبدل دور أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في معادلة الصراع العربي- الصهيوني بشكل كامل، وغيبتهم القيادة الفلسطينية بعد توقيع أوسلو قسرا عن المشهد السياسي، وبات تأثيرهم هامشيا ومحدودا على جميع المستويات النضالية لأكثر من عقدين داخل الأراضي المحتلة وفي المخيمات خارج فلسطين.

اتفاقيات التسوية وإخراج اللاجئين من المعادلة
في ربيع 1990 صرح صلاح خلف (أبو إياد)، أحد أبرز أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، لمجلة "السياسة الخارجية" الأميركية "بأن العودة الكاملة للاجئين لم تكن ممكنة، خاصة بعد تدمير إسرائيل كليا أكثر من 400 قرية في ما بين 1948-1949، ولن يقبل الكثير من الفلسطينيين العيش تحت حكم إسرائيل في حالة وجدت دولة فلسطينية كبديل"، ويحث أبو إياد إسرائيل على قبول مبدأ حق العودة والتعويض مع ترك تفاصيل هذه العودة مفتوحة للتفاوض".

كان هذا المبدأ البراغماتي للقيادة الفلسطينية مفهوم " التفاوض" أساس المرحلة الجديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ انتفاضة 1987، وكانت إعادة تعريف مفهوم تحرير فلسطين على أنه بإقامة دولة فلسطينية في أي جزء من المناطق المحتلة التي انسحبت منها إسرائيل. وهذا يعني ضمنياً إقامة دولة تقتصر على أراضي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. لم يتم التعامل في الحال مع الآثار المترتبة على هذا التحول الاستراتيجي في مفهوم حق العودة وتنفيذه. ففي إعلان الاستقلال (تشرين الثاني/نوفمبر 1988)، لم يذكر حق العودة ولا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، واكتفي بالإشارة إلى تأييد " تسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة". لم تكتف القيادة الفلسطينية بذلك، بل أعادت تفسير القرار 194 بطريقة محرّفة عن مفهوم " حق العودة" حيث أعاد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات إلى الذاكرة رسمياً – على نحو لافت للنظر أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ – بأن القرار 194 يشترط أيضاً " التعويض كبديل عن حق العودة".

استندت اتفاقيات التسوية بين الفلسطينيين والصهاينة إلى قراري مجلس الأمن رقم 242 (22 تشرين الثاني/نوفمبر 1967) ورقم 338 (22 تشرين الأول/أكتوبر 1973)، اللذين أشارا أساساً إلى "ضرورة تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين، ولم تعالج اتفاقات أوسلو قضية اللاجئين بشكل مباشر، كما لم تؤثر على وضعهم. وعلى غرار " قضايا الوضع الدائم" الأخرى، مثل القدس والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون مع دول مجاورة أخرى و"قضايا أخرى ذات الاهتمام المشترك".

تم تأجيل قضية اللاجئين إلى مرحلة ثانية من المفاوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية التي كانت ستبدأ خلال السنة الثالثة من الفترة الانتقالية. وبالتالي بقي الوضع القانوني للاجئين دون تغيير، ما عدا اللاجئين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين حصلوا مع السكان الأصليين لهذه الأراضي على بطاقات هوية جديدة منحتها لهم السلطة الوطنية الفلسطينية التي أنشئت حديثاً (عام 1994). لكن عن طريق البدء بفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، والتي كان من المقرر أن تُحل مع نهاية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني – بما في ذلك مسألة اللاجئين، وعملت اتفاقيات التسوية طيلة السنوات الماضية إلي تحويل قضية اللاجئين " وحق العودة والتعويض " داخل التجمعات الفلسطينية المتنوعة إلي نقاش حول المكونات السياسية والإنسانية لقضية اللاجئين.

حق العودة مقدّس وقابل للتفاوض
على هامش قمة أنابوليس (27 تشرين الثاني/نوفمبر 2007)، اعترف رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) بأن العودة الجماعية للاجئين إلى إسرائيل من شأنها أن تدمر البلاد؛ وبالتالي تتعلق العودة إلى فلسطين بشكل أساسي بأراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية التي ستقتصر على الضفة الغربية و قطاع غزة والعيش بسلام مع إسرائيل. وكرر في مناسبات عدة ذلك الأمر بطرق مختلفة كان آخرها في لقاء غير رسمي بين أبو مازن في (23 آب/أغسطس 2013) مع وفد "إسرائيلي" غير رسمي مكون من ست شخصيات من ميرتس، قائلا "أنا أعلم مدى خشيتكم وأنا أريد أن أوضح الأمور، أنا أستطيع أن أضمن لكم عشية نهاية ناجحة للمفاوضات، الالتزام بإنهاء كل الدعاوى ولن نطالب بالعودة إلى يافا وعكا وصفد".

وفي الخطاب الذي ألقاه الرئيس أبو مازن في جلسة افتتاح ما يسمى بمنتدى الحرية والسلام الفلسطيني في مقر السلطة في مدينة رام الله ( 7 شباط/ فبراير 2019) الذي ضم شخصيات فلسطينية وإسرائيلية، أعلن بأنه لن يسمح بعودة (5) ملايين لاجئ فلسطيني إلى ديارهم مكذباً ادعاءات الإعلام الإسرائيلي بهذا الصدد قائلا "نحن لا نسعى ولن نعمل على إغراق إسرائيل بالملايين.. هذا هراء.. نحن نعمل من أجل مستقبل شباب إسرائيل ونقدر حساسية إسرائيل تجاه الأمن، وخوفها من المستقبل والتطرف.. ونقبل بحلف الناتو ليقوم بمهمة تأمين الأمن للطرفين، ونتمسك بكل اتفاقيتنا الأمنية لمواجهة خطر الإرهاب".

اتخذت السلطة الفلسطينية عدة إجراءات من جانب واحد كان من شأنها تطبيع وضع اللاجئين في فلسطين، مما أثار الكثير من المخاوف والتوجس بين اللاجئين، ودفع بهم إلى التعبئة من أجل وضع "حق العودة"، وحصلت حملة تعبئة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث اكتسب اللاجئون نفوذاً سياسياً من خلال مشاركتهم في الانتخابات العامة عام 1996.بعدها انطلقت حملات تعبئة واسعة النطاق تحت رعاية العديد من مؤسسات الدفاع عن اللاجئين، بما في ذلك مظاهرات وعرائض، بل وحتى محاولات مؤسساتية لإنشاء هيئة مستقلة تمثل اللاجئين في مفاوضات الوضع الدائم. كما شهدت فترة ما بعد عام 1993 توترات بين مجموعتين في الضفة الغربية (بين جهاز السلطة الوطنية الفلسطينية لاجئي المخيمات) بشأن مثل هذه القضايا، مثل توزيع الخدمات البلدية (الكهرباء والماء) أو حيازة الأسلحة من قبل سكان المخيمات، بصفة عامة. واشتكى لاجئو المخيمات، على غرار لاجئي المخيمات في البلدان المضيفة الأخرى، من أن "السكان الأصليين" مارسوا التمييز الاجتماعي ضدهم. وفي قطاع غزة استاء اللاجئون – سكان المخيمات وغير المخيمات – من حقيقة أن قوّتهم داخل المجتمع مرهونة بوضعهم.

اعترفت القيادة الفلسطينية علناً في أوائل عام 1996، بأهمية حق العودة ودور لاجئي المخيمات داخل حركة المقاومة الفلسطينية. وتخلت عن خططها باندماج مخيمات الضفة الغربية ضمن البلديات المجاورة وتولي بعض مهام الأونروا قبل اتفاق السلام الدائم مع إسرائيل. ومع ذلك استمرت القيادة الفلسطينية في موقفها التوفيقي فيما يتعلق بحق العودة لصالح إقامة دولة فلسطينية.

زاد من قلق اللاجئين أن المفاوض الفلسطيني لم يكشف رسمياً عما تم التوصل إليه من تفاهمات في قمة كامب ديفيد الثانية 2000، بينما سرب الجانب الإسرائيلي معظم هذه التفاهمات التي أكدت وجود نقاشات من حيث المبدأ على تجزئة مسألة اللاجئين بعودة أعداد معينة ومحدودة من اللاجئين إلى داخل الدولة الإسرائيلية في إطار جمع الشمل وليس في إطار اعتراف إسرائيل بحق اللاجئين في العودة، وعبر استيعاب الدولة الفلسطينية لأعداد أخرى، وفي الحالتين ضمن خطة يستغرق تنفيذها سنوات طويلة تتراوح ما بين 10و20 سنة، مقابل إعادة تهجير الباقين أو توطينهم في أماكن إقامتهم الحالية.

اللاجئون الفلسطينيون في البلدان العربية
كان لاتفاقات أوسلو آثار ضارة على مجتمعات اللاجئين المقيمين في البلدان العربية المضيفة. بعد إبعادهم عن محادثات عملية السلام الثنائية، وجد اللاجئون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه بفرض مخططات إعادة التوطين عليهم، بغض النظر عن التحديات السياسية والمالية التي تترتب على تلك المخططات، دفعت هذه التحديات المهولة البلدان المضيفة في البداية لتشديد موقفها من قضية اللاجئين الفلسطينيين. واعتمدت جامعة الدول العربية قراراً في آذار/مارس 2007 يشدد على المشاركة النشطة للأمم المتحدة في عملية اتفاق الوضع الدائم من خلال الأدوار المتزايدة للأونروا ولجنة التوفيق. وفي الوقت نفسه في أواخر التسعينات، رفضت البلدان المضيفة بشكل قاطع الخطط الغربية غير الرسمية التي كانت تهدف إلى إعادة التوطين الدائم للجزء الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين في أمكنة إقاماتهم آنذاك (ما عدا لبنان) على الرغم من الحزم المالية الكبيرة المقترحة.

ابتدأت المحادثات متعددة الأطراف منذ أواخر 1993، فيما تم تأجيل المحادثات الثنائية ومحادثات اللجنة الرباعية حول مسألة النازحين حتى عام 1995، ولكن عندما عقدت المحادثات الثنائية في عام 1995 تم إبطاء المحادثات متعددة الأطراف، وبهذا أصبحت اجتماعات متعددة الأطراف بشأن اللاجئين تتم مرة كل عام بدل مرة كل 6 أشهر، ولقد تعطلت الاجتماعات بشكل تام لاحقاً.

تأسست مجموعة العمل خلال الجولة الأولى من المفاوضات متعددة الأطراف التي عقدت في موسكو عام 1992، على أن تترأس كندا مجموعة العمل الخاصة باللاجئين التي ضمت نشاطاتها أكثر من 40 دولة ومنظمة دولية، وتتكون مجموعة العمل الخاصة باللاجئين من ستة أطراف إقليمية هي: مصر، إسرائيل، الأردن، لبنان، فلسطين، وسورية، وقد قاطعت سورية ولبنان مجموعة العمل الخاصة باللاجئين حتى الآن.

عقدت مجموعة العمل الخاصة باللاجئين ثمانية اجتماعات مكتملة الأعضاء ما بين 1992-1995 ودعت جامعة الدول العربية عام 1997 لمقاطعة المفاوضات متعددة الأطراف كخطوة احتجاج على السياسات التي ينتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبناءً عليه لم تعقد أي جلسة مكتملة الأعضاء منذ ذلك الحين، أما بالنسبة لنشاطات مجموعة العمل فإنها لم تتوقف، بل استمرت على مستوى الاجتماعات المنعقدة خلال الجلسات السبع، وخلال اجتماع في بئر السبع تبنت اللجنة جدول عمل يدور حول أربعة موضوعات: تعريف النازحين، أعدادهم، كيفية العودة "الإدخال كما ورد في نص إعلان المبادئ"، محاولة إضافة جدول زمني إلى جدول العمل، وقد عارض الإسرائيليون النقطة الأخيرة، واستنفدت الاجتماعات اللاحقة للجنة الفنية بالخلافات بشأن ما يعنيه تعريف النازحين.

نصت اتفاقية كامب ديفيد 2000 بشأن اللاجئين على ما يلي "خلال الفترة الانتقالية يشكل ممثلو مصر وإسرائيل والأردن وسلطة الحكم الذاتي لجنة تعقد جلساتها باستمرار وتقرر الأطراف صلاحيات السماح بعودة الأفراد الذين طردوا من الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 واتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع الاضطرابات وأوجه التمزق، ويجوز لهذه اللجنة أن تعالج الأمور ذات الاهتمام المشترك".

ونصت على أن " تعمل مصر وإسرائيل مع بعضها ومع الأطراف الأخرى المهتمة لوضع إجراءات متفق عليها للتنفيذ العاجل والعادل والدائم لحل مشكلة اللاجئين". رغم التفاهمات تلك، إلا أن قمة كامب ديفيد انتهت دون أن تفضي إلى اتفاق نهائي.

قضية اللاجئين عودة إلى المربع "صفر"
انطوت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2019 على تفكيك وضعية اللاجئ الفلسطيني القانونية، وإنهاء جميع المطالبات المتعلّقة بالعودة أو استيعاب اللاجئين الفلسطينيين في دولة إسرائيل. كما اقترحت الرؤية إطاراً لدمج الغالبية العظمى في البلدان المضيفة الحالية، واستيعاب جزء منهم في دولة فلسطين المستقبلية ضمن قيود محددة، وتوطين 50 ألف لاجئ، على مدى عشر سنوات، في البلدان التي تنتمي إلى منظمة التعاون الإسلامي. كما حدّدت الرؤية صندوق تعويضات للاجئين، ووعدت بالسعي لجمع أموال الصندوق وسيُعنى بتقديم تعويضات للاجئين الفلسطينيين على أن يُدار بالتعاون بين دولة فلسطين والولايات المتحدة، إلّا أنّها أشارت إلى أنّ الاقتراحات السابقة التي طُرحت وطالبت بأن توافق إسرائيل على عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتعويضات بعشرات المليارات من الدولارات ليست واقعية. فيما تدّعي رؤية ترامب أنّ حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين تكمن في تفكيك جميع المخيّمات وبناء مساكن دائمة بدلاً منها، وإنهاء وجود "الأونروا" وتحويل مسؤولياتها إلى الحكومات المعنية.

رفض الطرف الفلسطيني خطة ترامب، لكن ما قام به المفاوض الفلسطيني على مدار ثلاثة عقود ساهم في إضعاف المكانة القانونية للاجئ الفلسطيني. إذ كشفت "أوراق فلسطين" كيف أنّ القيادة الفلسطينية وفريق التفاوض، توصّلوا في مقترحاتهم التفاوضية مع الطرفين الإسرائيلي والأميركي، إلى حلول تقضي بعودة رمزية للاجئين. ففي اجتماع لكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات مع المبعوث الأميركي جورج ميتشل، قال عريقات إنّ "على الفلسطينيين أن يفهموا أن خمسة ملايين لاجئ لن يعودوا جميعهم".

يبدو من الواضح أنّ رؤية ترامب وخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، لن تسمح بإنشاء دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة تستوعب هذا العدد الرمزي أيضاً، الأمر الذي يجعلنا نعود إلى المربع "صفر" وهو التمسك بكون حق العودة والتعويض حقا فرديا وحقا جماعيا ولا يمكن التفاوض عليه أو التنازل عنه ولا يسقط بالتقادم، وعلى القيادة الفلسطينية أن تخرج حق العودة والتعويض من أي مفاوضات أو تسويات مقبلة.
المساهمون