10 أكتوبر 2024
اللاجئون السوريون في لبنان وآلة الفرْم العنصرية
المناخ معبأ بمنهجيةٍ ذكية. الإعلام، السياسيون، المواطن العادي. كله ينشد سيادةً ولقمة عيش، ولا ينقصه غير التكلم عن "الكرامة الوطنية"، لولا العيب والاستحياء. هجوم عسكري على أحد مخيمات البؤس في عرسال، استباق عملية إرهابية، اعتقال نازحين على طريقة "الشّبيحة"، ثم وفاة أربعة منهم، وربما أكثر، في السجن في ظروفٍ مُريبة. إرتباك الجيش، حصار إعلامي، احتراق ثلاثة مخيمات لجوء. وبيانات لحقوقيين وجمعيات حقوق إنسان عن تعذيب السجناء، ومحاولات إخفاء الأدلة، تحت الابتزاز والتهديد الصريحَين. ولاجئون خائفون من البقاء وخائفون من "العودة". كل هذا من أجل ماذا؟ "محاربة الإرهاب"، أو "البيئات الإرهابية".
أما عن النعتْ الإرهابي، فقد صار بائخاً: بعد "الخائن"، جاء "الإرهابي". صار الأمر معروفا، عالمياً ومحلياً: كل من قاوم الهيمنات، كل من تجرأ على رفض خططٍ مشبوهة، كل من باتَ أمر التخلص منه على أولويات الأجندة، يصبح "إرهابياً" بجرّة قلم. كان "الإرهاب" من سمات الفلسطينيين في عهدٍ بعيد؛ والآن أنظر إلى المخيمات الفلسطينية: بؤر بؤس وضياع، صندوق بريد للقوى الإقليمية المتصارعة، "مادة" بشرية دسِمة صالحة للاستلاب والاستغفال.
والآن، جاء دور اللاجئين السوريين. في بداية المقْتلة السورية، كان "التكْفيريون" الهدف العسكري المعلن لجحافل مليشيات حزب الله التي هبّت كرجل واحد لإنقاذ بشار الأسد من شعبه. أما الآن، فغاب المصطلح، بعدما غاب نظيره، "الخوَنة"، وحلّ مكانه "الإرهابيون". السبب؟ ربما إضفاء صفة الشرعية الدولية على حربهم هذه. كما دونالد ترامب وضع أولوية الحرب على الإرهاب، نسّقوا جهودهم الإعلامية، ووحّدوا كلمتهم معه، فكانت حربهم على "الإرهاب". هذا لا يعني أن الإرهاب غير موجود. لكن من حسن حظ مجموعاته العسكرية أن الذين يقودون الحرب ضده، يمنحون الصفة الإرهابية لكل من شاءوا؛ فوق أنهم متسبِّبون به، أو داعمون له، بشكلٍ أو بآخر. وهذا ما سمح للإرهاب بالحرث في المياه العربية.
ولكن، ما علينا: ماذا تريد الآن تحديداً هيئة الأركان العليا من كل هذه العملية؟ أي حزب الله؟ بعدما اعتدى هذا الأخير على سوريي المناطق المحاذية للحدود اللبنانية، وأنشأ في إحدى
قراهم، القصير، واحدة من قواعده العسكرية، فقتل من أهلها، وهجّر البقية إلى جرود قرية عرسال. فحولهم إلى لاجئين، ضائعين، على أراضي دولةٍ، لا قانون لها ولا مؤسسات... يريدون الآن إعادتهم بالقوة إلى قراهم التي يسيطرون عليها نيابةً عن "الشرعية" الصوَرية لبشار الأسد، بإمرة قيادتهم الإيرانية العليا، بغية تحويلهم، تحت ضغط ضياعهم، إلى نوعٍ من أنواع "السرايا"، الشبيهة باللبنانية، يحملون السلاح الخفيف، أو يجنَّدون بالقوة في الجيش الأسدي؛ فيكونوا في الحالتين مُلك القيادة نفسها، الممانعة، المنسِّقة مع الروسية والأميركية... إلخ.
وقد أعانهم على المهمة إعلامٌ موجَّه، جذّاب؛ يفكِّك "العنصرية اللبنانية" ليرتدّ عمّا كان يكرّره سابقا، عندما كان يتعاطف مع اللاجئين السوريين ضد حيتان المحيط اللبناني. كلا! لسنا شعباً عنصرياً! يردِّد إعلامهم الوفيّ في الدفاع عن الانتهاكات العسكرية التي طاولت لاجئي جرود عرسال. وخلفية الكورس، رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، اللذان لم ينفكا، طوال سنةٍ بأكملها، عن المطالبة بطرد اللاجئين السوريين إلى سورية... ها هو اليوم، ينظِّر هذا الإعلام الوفي لإضفاء الهالة الوطنية على العمليات العسكرية ضد اللاجئين السوريين، بذريعة نيْلهم من أمن لبنان. وأين؟ في دولة انتهاك الدستور ونهب المال العام والانفلات الأمني. إعلامي من بينهم، وليس أقلهم شأناً، ذهب أبعد من ذلك: قال إنه عندما يتناول المرء موضوع اللاجئين السوريين، لا ضرورة للأخلاق السياسية، فالرؤية الثاقبة تقتضي الاحتكام إلى "المصالح" و"الأولويات". كأنه يصرخ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". معركة قتل اللاجئين السوريين، وإهانتهم وتخريب خيمهم وحرقها، ووصمهم جميعهم بالإرهاب، لغايةٍ واحدة: إعادتهم إلى خراباتهم. ونحن نتكلم هنا عن العقول المتدبِّرة في محور الممناعة، لا الشعب أو بالأحرى الجماهير الطائفية، الحقيقية منها والافتراضية، التي تتلقى "أمر اليوم"، عند كل طلعة شمس: ماذا تقول، ماذا "تفكّر"، بماذا تتحجّج.
سياسيو المعسكر الآخر، المفترض أنهم "متعاطفون" مع الشعب السوري ضد الديكتاتور، لم يقصِّروا، بدورهم. سكتوا، بناءً على ما تمْليه كراسيهم. بالأمس، وزير الداخلية "لاحظ" أن
الذين قُبض عليهم بجرم إطلاق النار العشوائي خرج غالبيتهم بعد ضغوط مارسها نظراؤه من السياسيين الآخرين (يسمّونها "غطاء"). هؤلاء الذين تسبّبوا بقتل مواطنين لبنانيين برصاصهم المبتهج، لم يسأل أحدٌ أين تبخّروا، ولا كيف. ضاع الموضوع في متاهات معركةٍ أكثر "مصيرية": كيفية طرد اللاجئين السوريين من لبنان. مع أنهم أول الضالعين بكيفية الاستفادة من وجودهم بالمال والاهتمام الدولييَن؛ المال خصوصاً، الذي لا يعرف غيرُهم كيف صُرِف... وإذا جمعتَ "الحكام" وجماهيرهم الغفيرة وكتّابهم الألمعين، يمكنك القول إن ثمّة مرضاً ينخر الجسم اللبناني كله؛ مرض العنصرية الموسمية، الخاضعة لأجنداتٍ غير سرية. عنصرية للاستعمال السياسي. تشبه عنصرية اليمين الأوروبي المتطرّف أو النازية، لكنها تختلف عنها بمزاجها العشوائي (والمفارقة أن المجرمين اللبنانيين المتمتعين بالـ"تغطية" والإفلات من العقاب، جرائمهم علنية ومسجلة، فيما "الإرهابيون" من بين اللاجئين السوريين، لا جرائمهم واضحة ولا "محاكماتهم").
هكذا تقع مسؤولية العنصرية ضد السوريين على أكتاف الإثنين: ما يسمى "الدولة"، بقيادتَيها، المعلنة وشبه المعلنة، ثم الشعب، بعوامه ونخبه. مقارنة بسيطة: في تركيا التي لا يعجبنا نظامها المتجه نحو التسلّط: وزير داخليتها استنكر انتشار دعواتٍ إلى ترحيل السوريين من تركيا في مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام، فأصدر بيانا، أعلن فيه "أن الجنايات والجنح التي يرتكبها سوريون هي أقل من تلك التي يقوم بها مواطنون أتراك"، بعدما تكلم بلغة التعاطف مع مأساتهم الوطنية. وكأنه بذلك يبعث رسالة إلى الداخل اللبناني: "الحكي إلك (لكِ) يا جارة، إسمعي يا كِّنة"...
أما عن النعتْ الإرهابي، فقد صار بائخاً: بعد "الخائن"، جاء "الإرهابي". صار الأمر معروفا، عالمياً ومحلياً: كل من قاوم الهيمنات، كل من تجرأ على رفض خططٍ مشبوهة، كل من باتَ أمر التخلص منه على أولويات الأجندة، يصبح "إرهابياً" بجرّة قلم. كان "الإرهاب" من سمات الفلسطينيين في عهدٍ بعيد؛ والآن أنظر إلى المخيمات الفلسطينية: بؤر بؤس وضياع، صندوق بريد للقوى الإقليمية المتصارعة، "مادة" بشرية دسِمة صالحة للاستلاب والاستغفال.
والآن، جاء دور اللاجئين السوريين. في بداية المقْتلة السورية، كان "التكْفيريون" الهدف العسكري المعلن لجحافل مليشيات حزب الله التي هبّت كرجل واحد لإنقاذ بشار الأسد من شعبه. أما الآن، فغاب المصطلح، بعدما غاب نظيره، "الخوَنة"، وحلّ مكانه "الإرهابيون". السبب؟ ربما إضفاء صفة الشرعية الدولية على حربهم هذه. كما دونالد ترامب وضع أولوية الحرب على الإرهاب، نسّقوا جهودهم الإعلامية، ووحّدوا كلمتهم معه، فكانت حربهم على "الإرهاب". هذا لا يعني أن الإرهاب غير موجود. لكن من حسن حظ مجموعاته العسكرية أن الذين يقودون الحرب ضده، يمنحون الصفة الإرهابية لكل من شاءوا؛ فوق أنهم متسبِّبون به، أو داعمون له، بشكلٍ أو بآخر. وهذا ما سمح للإرهاب بالحرث في المياه العربية.
ولكن، ما علينا: ماذا تريد الآن تحديداً هيئة الأركان العليا من كل هذه العملية؟ أي حزب الله؟ بعدما اعتدى هذا الأخير على سوريي المناطق المحاذية للحدود اللبنانية، وأنشأ في إحدى
وقد أعانهم على المهمة إعلامٌ موجَّه، جذّاب؛ يفكِّك "العنصرية اللبنانية" ليرتدّ عمّا كان يكرّره سابقا، عندما كان يتعاطف مع اللاجئين السوريين ضد حيتان المحيط اللبناني. كلا! لسنا شعباً عنصرياً! يردِّد إعلامهم الوفيّ في الدفاع عن الانتهاكات العسكرية التي طاولت لاجئي جرود عرسال. وخلفية الكورس، رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، اللذان لم ينفكا، طوال سنةٍ بأكملها، عن المطالبة بطرد اللاجئين السوريين إلى سورية... ها هو اليوم، ينظِّر هذا الإعلام الوفي لإضفاء الهالة الوطنية على العمليات العسكرية ضد اللاجئين السوريين، بذريعة نيْلهم من أمن لبنان. وأين؟ في دولة انتهاك الدستور ونهب المال العام والانفلات الأمني. إعلامي من بينهم، وليس أقلهم شأناً، ذهب أبعد من ذلك: قال إنه عندما يتناول المرء موضوع اللاجئين السوريين، لا ضرورة للأخلاق السياسية، فالرؤية الثاقبة تقتضي الاحتكام إلى "المصالح" و"الأولويات". كأنه يصرخ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". معركة قتل اللاجئين السوريين، وإهانتهم وتخريب خيمهم وحرقها، ووصمهم جميعهم بالإرهاب، لغايةٍ واحدة: إعادتهم إلى خراباتهم. ونحن نتكلم هنا عن العقول المتدبِّرة في محور الممناعة، لا الشعب أو بالأحرى الجماهير الطائفية، الحقيقية منها والافتراضية، التي تتلقى "أمر اليوم"، عند كل طلعة شمس: ماذا تقول، ماذا "تفكّر"، بماذا تتحجّج.
سياسيو المعسكر الآخر، المفترض أنهم "متعاطفون" مع الشعب السوري ضد الديكتاتور، لم يقصِّروا، بدورهم. سكتوا، بناءً على ما تمْليه كراسيهم. بالأمس، وزير الداخلية "لاحظ" أن
هكذا تقع مسؤولية العنصرية ضد السوريين على أكتاف الإثنين: ما يسمى "الدولة"، بقيادتَيها، المعلنة وشبه المعلنة، ثم الشعب، بعوامه ونخبه. مقارنة بسيطة: في تركيا التي لا يعجبنا نظامها المتجه نحو التسلّط: وزير داخليتها استنكر انتشار دعواتٍ إلى ترحيل السوريين من تركيا في مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام، فأصدر بيانا، أعلن فيه "أن الجنايات والجنح التي يرتكبها سوريون هي أقل من تلك التي يقوم بها مواطنون أتراك"، بعدما تكلم بلغة التعاطف مع مأساتهم الوطنية. وكأنه بذلك يبعث رسالة إلى الداخل اللبناني: "الحكي إلك (لكِ) يا جارة، إسمعي يا كِّنة"...