وقبل يومين طُرح في مجلس النواب مشروع قانون "لوقف تمويل الانسحاب من سورية إلى حين قيام البنتاغون بإبلاغ الكونغرس عن حقيقة وضع "داعش" وتقديم خطة للتعامل مع بقايا مخاطره".
أهمية الحدث الأول أنه صادر عن الحليف الأساسي للرئيس دونالد ترامب في الكونغرس، السناتور ميتش ماكونيل رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ. فهو الذي بادر ودفع بهذا المشروع إلى التصويت كعلامة هي الأولى من نوعها على اصطدام الجمهوريين مع الرئيس حول سياساته الخارجية.
وأهمية ما طُرح في مجلس النواب أنه صادر عن تحالف جمهوري – ديمقراطي، في وقت ندر فيه التلاقي بينهما.
وفي المجلسين، يحوز هذا التوجه على تأييد وازن من الحزبين يكفل تمرير هذه المشاريع.
واكبت ذلك مجموعة أخرى من المشاريع التي تتحدى سياسة الرئيس تجاه كوريا الشمالية وحلف شمال الأطلسي وتطمح إلى تعزيز دور الكونغرس في الملفين الصيني والروسي. وفي هذا السياق، سبق وصدر عن الكونغرس في ديسمبر/كانون الأول الماضي قرار بوقف الدعم العسكري للسعودية في حربها اليمنية، كرد على جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي.
انتفاضة الكونغرس هذه خاصة من جانب الجمهوريين، اخذت جرعة من الزخم قبل يومين؛ عندما أدلى عدد من كبار مسؤولي أجهزة الاستخبارات بإفادات تتناقض مع توجهات الرئيس وحيثيات مواقفه وسياساته السورية والإيرانية والكورية الشمالية. ففي جلسة أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، أعطى كل من مدير الوكالة الوطنية للاستخبارات دان كوتز ومديرة "سي آي إيه" جينا هاسبل ومدير "إف بي آي" كريستوفر راي، صورة تدحض تلك التي رسمها الرئيس الذي دفعه سخطه منهم إلى الاستهزاء بهم واعتبارهم بمنزلة أولاد عليهم "العودة إلى المدرسة".
بلوغ التناقض والتنابذ هذه الحدة والعلنية، كشف عن شرخ كبير في عملية صياغة القرار الذي تشارك هذه الأجهزة فيها من خلال المعلومات والتحليلات التي توفرها للرئيس حول سائر القضايا والأزمات والتطورات الدولية. خلل تتراكم عوامله بصورة مكتومة منذ فترة. الآن خرجت مظاهره إلى السطح ليس كخلاف في وجهات النظر من قضايا محددة، بقدر ما هو صراع يختمر في العمق بين سياسة "حمائية" يحمل الرئيس ترامب شعارها الشعبوي ومعه حوالي ثلث الجسم الانتخابي وأخرى "كونية" تتمسك بها وتقاتل من أجلها مدرسة السياسة الخارجية الموروثة والسارية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. كلاهما مرّ وما زال في حالة من الارتباك في التعامل مع الساحة الدولية وتعقيداتها التجارية والعسكرية وتحدياتها الجيو سياسية. لكن مع ذلك، استطاعت رئاسة ترامب تنفيذ بعض بنود أجندتها، مثل الانسحاب من عدد من الاتفاقيات الدولية وزيادة رسوم الاستيراد وبما هدد بحرب تجارية والتمهيد لفك بعض التحالفات مثل حلف شمال الأطلسي.
بيد أن نتائج انتخابات الكونغرس الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، غيرت المشهد. التفاف الجمهوريين الصلب حول الرئيس ترامب، تخلخل إلى حد بدأت معه كفة المدرسة التقليدية ترجح على حساب الشعبوية الترامبية. لأول مرة، تجراء أكثر من جمهوري على مغادرة قطار الرئاسة بدون تردد. تبدّى ذلك بوضوح في أكثر من تصويت في الكونغرس مؤخراً ضد الإغلاق الحكومي الذي افتعله الرئيس. وبالنهاية، أبلغوه بضرورة التراجع لتعذر مواصلة العمل بهذا الخيار المكلف سياسياً. وهكذا كان. نفس السيناريو ولو بإخراج مختلف يتكرر الآن بالنسبة لموضوع الانسحاب من سورية. المؤسسات يتقدمها الكونغرس، قررت التصدي لسياساته غير التقليدية وغير المقبولة. والأرجح أن الرئيس المحشور في أكثر من زاوية قد يجد أن لا خيار أمامه سوى التراجع ولو لشراء الوقت وترك الانسحاب كقضية معلقة وإلى حين.