ربّما كانت قصيدة "الرجل البخّاخ" للشاعر السوري تمام التلاوي، قصيدة فريدة في الشعر العربي الحديث، إذ تمدح وترثي في الوقت نفسه مجموعة شبّان وصبية قُتلوا إذ بخّوا على الجدران شعارات ضدّ النظام السوري، غبّ بدايات الثورة السورية. لا تبدو قصيدة تمام مشغولةً بجماليات الاستعارة، ولا أي من أحابيل البلاغة، بل توظّف طاقتها المشحونة بالحزن والأسى، لتسرد وتصف :"في كلّ ليلة يمرّ شخص مجهول يحمل بخَّاخاً ويكتب على حائطي هذا كلمة: حرّية/ قمتُ بترصُّده هذه الليلة/ كان صبياً مراهقاً/ كالح الوجه/ غاضب الملامح/ يرتدي ملابس رثّة/ أمسكته من ياقته/ أسندته إلى الحائط/ وبكلّ ما أُوتيت من قوَّة/ قبَّلتُ جبينه…/ وبكيتُ". وهذا الوصف الذي يبدو، في ظاهره، بعيدًا من الشعر، يقبض في الجوهر على روح فنّان "الغرافيتي"، لكأنّه أدق توصيف لفنّاني "الغرافيتي"، فنّ المهمّشين والمستضعفين. لكنّه الفنّ الأكثر تعبيرًا عن التمرّد والمقاومة. سريعًا سريعًا حجز هذا الفنّ له مكانةً واسعة شاسعة في العالم. فابن ستينيات القرن المنصرم هذا، غدا اليوم فنّا معترّفًا به، له روّاده ومريدوه، ونجومه ومحبّوه.
في قصيدة تمّام يبدو "الغرافيتي" في أوّل تفتحه، صادقًا وفقيرًا بالضرورة؛ فالبخّاخ لا يملك عدّة بخّاخات بل واحداً، لا يخطّ جملةً بل كلمة واحدة. لا وقت لديه، رفيق الظلام والليل هذا. لكنّه بطريقة ما، يثير غضبًا ملتبسًا لدى الشاعر، غضبٌ أدنى إلى الخوف والتوجّس قبل القبلة والدمعة. هذا السرد الماكر والوصف البريء ظاهرًا، طريقة السوريين في إنشاء لغة بديلة، نتيجة عقود القمع الطويلة الشهيرة التي لمّا تنتهي. وحدهم السوريون يتقنون فكّ شيفرة لغتهم البديلة، ويستنبطون منها معانيَ لا حصر لها، إذ هي تخبّر "حكايات" حقيقية. ليس سرًّا أن أكثر من "رجل بخّاخ" سوري قُتل، ولعلّهم يشكّلون، "استثناءً سوريًا" جديدًا، إذ هم أوّل شهداء فنّ "الغرافيتي" في العالم.
هم مغفلو الاسم كعادة فنّاني "الغرافيتي" الواقعين تحت القمع الشديد، هم أدنى إلى إخوانهم في فلسطين، الذين على ما يبدو، أوّل العرب في الرسم على الجدران احتجاجًا ومقاومة وتمرّدًا على الاحتلال، الذي من حيث لا يدري منحهم "منصة" للتعبير، حين قرّر تسوير ما تبقى من أرضهم "الممزقة التلال"، بجدار إسمنتي غدا شهيرًا وألقابه لا حصر لها. استدعى الجدار فنّانين عالميين لرسم "الغرافيتي" عليه، علامة تضامن مع الشعب الأسير. هل للفنّ قدرة على تحريك الأشياء والجدار؟ للفنّ قدرة على "الحشد السريع" في زمننا العنكبوتي. لكنّه لا يملك أكثر من "نخزات" الضمير هذه، إلى الآن، على الأقل. مع ذلك، هو يحمل الأمل من حيث يقول بوجوب التعاطف مع الضحية، ومنحها الحقّ في الحياة. زار أحد أشهر فنّاني الغرافيتي "بانكسي"- وهذا لقبه كما هو معروف - فلسطين، ورسم على الجدار مجموعة من الرسوم التي تحمل الأمل. من بين تلك الرسوم، ثمّة واحدٌ لفتاة صغيرة تمسك مجموعة بالونات، لتطيرَ فوق الجدار. معانٍ كثيرة يمكن استنباطها، لكأن "الغرافيتي" ها هنا استعارةٌ شعرية، لولا أن تلك الفتاة ليست "أصلية" بل صورة عن فتاة أخرى، تحمل بالونًا واحدًا، ظهرتْ للمرّة الأولى على حائط شرق لندن عام 2002. لكنه الاسم / اللقب الشهير بانكسي، الذي غدا أدنى إلى ماركة مسجّلة، هكذا وبخفّة، أعاد "استعمال" الفتاة نفسها في حملة "مع سورية" التي أقيمت بمناسبة مرور ثلاث سنوات على الثورة، بيد أنه اختار أن يضع على رأسها غطاءً. وهذا مفهوم، فقد غدا بانكسي "ماركة مسجلة" في فنّ بدأ بالمهمشين، ويبدو متجهًا بعيدًا منهم.
في فلسطين، ثمّة فنّانون للـ "غرافيتي" أدنى إلى قصيدة تمّام التلاوي، وهم يمتلكون أحيانًا وقتًا أطول من الوقت اللازم للبخّ، فيبدعون بعض الرسوم التي تحتاج إلى ريشات وألوان. وبما أنّ "الغرافيتي" غدا فنّا معترّفًا به، يشار إلى مبدعيه بالبنان، فلا ريب أن السوريين والفلسطينيين لن يكونوا في مرتباته الأولى؛ مقابل الرذاذ، ثمّة دم أو اعتقال.
في مصر، تختلف الأمور، فنّانو الغرافيتي هناك كثرٌ، "أبهروا" العالم بقدرتهم على الاستجابة مع المستجدّ يوميًا غداة ثورة 25 يناير، فلم يتركوا جدارًا في ميدان التحرير والشوراع المحيطة به تقريبًا، إلا واستعملوه للتعبير عمّا أرادوا قوله. ورغم كلّ عمليات المحو التي تناوبت عليها "السلطات"، عاد "الشباب" إلى الميدان والشوارع وأعادوا رسم ما تمّ محوه. وقال أحدهم ساخرًا غداة إحدى عمليات المحو: سيساعدنا ذلك في تطوير فنّ الغرافيتي المصري. وهذا صحيح الفنّانون المصريون الشباب، هم من يشار إليهم بالبنان عند التطرّق إلى فنّ الغرافيتي العربي، لكن ثمّة خصوصية مصرية لا تتعلّق كما قد يرد إلى الذهن بـ المستوى الفنّي للغرافيتي المصري، بل بتجربته، فهو ليس فقط الفنّ الذي تألّق أثناء الثورة، بل هو الفنّ الذي عبّر عن موقف سياسي. فمن ينسى تلك الحادثة: تصويب الرصاص على العيون؟ استجاب الفنّ بجدارية "عيون الحرية". سيكون من الظلم الاقتصار على "المستوى الفنّي" عند الحديث عن الغرافيتي المصري، ففي الأمر إغفال كبير للبّ الأمر: ثورة 25 يناير. ضيف هذا العدد أحد أبرز فنّاني الغرافيتي في ثورة يناير: جنزير.