الكعب: آلاف السنوات.. من الطموحات العالية

28 اغسطس 2014
لم يصل "الكعب العالي" إلى أميركا قبل الخمسينيّات
+ الخط -
قد لا يكون مجرّد حذاء، ذلك الذي يرفعنا قليلاً إلى أعلى، في محاولة لتقريبنا من السماء وإبعادنا عن الأرض. فقد أصبح رمزاً للأنوثة والأناقة، بل ورمزاً فلسفياً أيضاً للنساء اللواتي يتقنّ قراءة الحياة بخطواتهنّ، وقراءة التاريخ المثير الذي يضعنه في أقدامهنّ ويقفن عليه منذ مئات السنين.

يعود اختراع الكعب العالي إلى حوالى 3500 سنة قبل الميلاد. فقد استخدم قدماء اليونانيين والفراعنة أحذية مرتفعة قليلاً عن الأرض بفضل قاعدة خشبية، وكانت مخصّصة للطبقة الحاكمة كرمز للنبل وارتفاع المركز الاجتماعي، كما استخدمه الفرسان الفرس في القرن التاسع بعد الميلاد لتثبيت أقدامهم في حلقات السرج.

وفي القرن 15 بعد الميلاد اخترع الأتراك أيضاً نوعاً من الأحذية ذات الكعب العالي وكانت للمرّة الأولى موجّهة إلى النساء فقط.

غير أنّه ظهر بشكل أقرب إلى ما هو عليه الآن في عام 1533 بالتحديد، حين طلبت كاترين دي ميدسيس، زوجة الملك هنري الثاني، من أحد اسكافيي مدينة فلورنسا، صناعة حذاء مميز لها لترتديه في حفل زفافها، فصنع أوّل حذاء بكعب عالٍ يرفع الكعب فقط دون رفع أصابع القدم. وفي القرن 16 طلب ملك فرنسا لويس 14 من المصمم الشهير نيكولاس لوستاج حذاء مميّزاً، فصنع له حذاء عالياً مزيّناً برسوم أنيقة تعرض انتصاراته الحربية.

وكان قد وصل إلى ما يقارب 10 سنتمترات. وكانت تلك الموضة موجّهة إلى الرجال فقط، رغم أنّ 
الكعب العالي في تلك الفترة كان ملكية مشتركة بين نساء الطبقة الارستقراطية ورجالها، ولم يكن يُسمَح للشعب بارتداء شيء يشبهه، عدا أحذية "السابوهات" الخشبية التي كانت منتشرة لدى الاثرياء من العامة.

حين قامت الثورة الفرنسية في القرن 18 مُنِعَ ارتداء الكعب العالي. فقد كان رمزاً للأرستقراطية وللطبقة النبيلة التي تعارض أفكار الثورة، لكنّه اختفى قليلاً وعاد إلى الظهور في القرن 19. وعرف انتشاراً واسعاً بعد الحرب العالمية الثانية، إذ عادت النساء إلى الاهتمام بتفاصيلهنّ المؤنّثة التي كانت ضائعة بسبب الحرب.

ثم راج في سبعينيّات القرن الماضي، واستخدمه الرجال والنساء على حدّ سواء مرّة أخرى، وظهر "كعب المطرقة"، وأصبح رمزاً للشباب ورمزاً للنجوم. فلا أحد ينسى أوّل مشهد من فيلم "حمى ليلة السبت" الذي يبدأ بخطوات الكعب العالي للبطل، كما لبسه عدد من النجوم مثل "البيتلز" وغيرهم. الأمر الذي وسّع استخدامه في كلّ شوارع العالم، وكان "كعب المطرقة" هو الأكثر شهرة آنذاك.

لكنّ "الكعب الإبري" أو ما يعرف باسم "الستلتو" له تاريخ أعمق وحكاية أكثر تشويقاً. فقد ظهر العام 1950 في ايطاليا وبدأ بخمسة سنتمترات فقط. ومعنى كلمة "ستلتو" مأخوذ من "ستيلوس" اللاتينية بمعنى "الشيء الحادّ أو الخنجر".

ويعود الفضل في تطويره إلى المصمم شارل جوردان الذي رفعه إلى ثمانية سنتمترات العام 1951. وكان قد سبقه أندريه بيروجيا في العام 1940 حين صنع حذاء المغنية ماستينغات الشهير. أما صاحب الفكرة العبقرية في وضع الإبرة الحديدية بدل الخشب داخل كعب "الستلتو" لجعله أقوى، فهو المصمم "روجيه فيفي"، في العام 1954 وكان حينها يعمل مع كريستيان ديور. وقد كانت هذه الفكرة هي بداية شهرة واسعة لهذا النوع من الأحذية.

ومن الغريب أنّ هذا الكعب لم يصل إلى الولايات المتحدة الأميركية إلا في الخمسينيّات، حين نشرت صحيفة عريقة خبراً عن هذا الاختراع، وبات سريعاً مطلباً نسائياً عاجلاً هناك. ثم انتشر في كلّ العالم وتنوّعت أشكاله وصرعاته. لكنّه بقي رمزاً للأنوثة رغم هجوم منظمات المطالبة بحقوق المرأة عليه في الستينيّات واعتباره "صورة للهيمنة الذكورية".

إلا أنّه استطاع أن يفلت سريعاً من هذه الاتهامات لأنّه أصلاً كان مخصّصاً للرجال قبل أن تصادره النساء منهم. بل وأصبح أيقونة تعبّر عن الجبروت النسائي وصورة المرأة الخطيرة والقيادية، وقد تراجعت شهرته خلال الثمانينيّات والتسعينيّات، لكنّه عاد مرّة أخرى مطلع الألفية وارتفع أكثر من 12 سنتم.

ورغم مضار الكعب العالي الكثيرة، بحسب دراسات طبية عديدة، منها تشويه عظام القدم، والتسبّب في كسور لمن لا تتقن المشي به، إلا أنّ دراسة واحدة فقط كانت في صفّه أخيراً وبيّنت أهمية ارتدائه لتقوية عضلات الحوض لدى المرأة. ولعلّ من أشهر ما قيل عن هذا الاختراع عبارة للموسيقار محمد عبد الوهاب: "أنوثة المرأة تبدأ من الكعب العالي".

إضافة إلى نكتة الكاتب والمخرج الفرنسي ساشا جيلتي، الذي قال: "تمّ اختراع الكعب العالي من طرف امرأة سئمت تقبيلها على الجبين". ومن الطرائف حوله أيضاً مسابقة في ألمانيا للركض بالكعب العالي. قد تبدو فكرة غبية ربما، غير أنّها، إذا تمعنّا بها قليلا، قد تكون أعمق ممّا نراه، وقد تظهر فعلا مدى المعاناة والتعب والخطر الذي يحيط بالنساء أثناء ركضهنّ على إسفلت الوجود وهنّ يلبسن طموحاتهنّ العالية.

المساهمون