الكتيبة الطلابية وتجربة ناجي علوش ويسار "فتح"

06 اغسطس 2018

مقاتلون فلسطينيون يتهيأون للخروج من بيروت (30/8/1982/فرانس برس)

+ الخط -
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "تبغ وزيتون، حكايات وصور من زمن مقاوم" لكاتبه معين الطاهر (ط1 /2017)، يسرد تجربة "الكتيبة الطلابية" (في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان) التي كانت، في مرحلتها الأولى، جزءاً من تجربة جزء من يسار حركة فتح الذي كان يقترن باسم القيادي والمثقف الفلسطيني، ناجي علوش. وكانت قد صدرت عن هذه التجربة الخاصة بالكتيبة الطلابية عدة كتب من مشاركين فيها، منها كتابا فتحي البس "انثيال الذاكرة" (دار الشروق، عمان، 2008)، وشفيق الغبرا "حياة غير آمنة" (دار الساقي، بيروت، 2012). كما كُتب عن تجربتها في التحوّل من الماركسية إلى الإسلام كرّاس "اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح"، لنيكولا دوت بويار (ترجمة عمرية سلطاني، مكتبة الإسكندرية، 2010)
ليست هذه المطالعة معنيةً بكل ما ورد في هذه الكتب، بل بجانب واحد يتعلق بموقع ناجي علوش في التجربة التي أصبح كاتب هذه السطور جزءاً منها بعد الانفصال الذي حدث نهاية سنة 1974. وبالتالي على معرفة بها، وبطبيعة موقع علوش فيها، وبأسباب الخلاف التي أفضت إلى الانشقاق، وخروج مجمل "الكتيبة الطلابية" (فيما عدا عضو واحد هو شمس التيني). كما يسرد معين الطاهر، يتعلق الأمر بالكتيبة الطلابية وحدها، ولهذا يشير إلى أنه على ضوء الخلاف "خروج مجموعة بقيادة الأخوين ناجي علوش وأبو داود" (ص 76)، و"بالنتيجة التحقوا بمجموعة أبو نضال"، كما يشير في المقابلة الطويلة التي أجراها معه إلياس خوري وميشال نوفل (حوار معين الطاهر، الكتيبة الطلابية: تأملات في التجربة، منشورات ضفاف، بيروت، 2015). وإذا كان ما كُتب في حياة ناجي علوش يتعامل بهذه الخفّة معه، 
فقد بات الأمر كذلك بعد وفاته. وأبعد من ذلك، بات يُعلن خلافا معه لم يكن موجوداً أصلاً، حيث أن منير شفيق زعيم "الكتيبة الطلابية"، وأساس الاختلاف مع ناجي علوش، بات يكرّر أن الخلاف كان حول فلسطين. ربما يكون الأمر فانتازياً، حيث الموت يسمح بمساحة من "تزوير التاريخ" كبيرة، ولهذا يبدأ التقويل، والتحوير، وغيرها من أشكال تجاوز الحقائق، لمصلحة من ظلّ على قيد الحياة. هذا الأمر هو الذي جعلني أردّ على بعض ما يتكرّر حول ناجي علوش، وتجربة طرفٍ من أطراف يسار فتح، كانت الكتيبة الطلابية فرعاً صغيراً منه، كان يُعرف بـ "جماعة ناجي علوش".
هناك ابتسار في ما كتبه معين الطاهر، وتحويل تجمع "الكتيبة الطلابية" إلى مثال نقي، واعتبار "خروج" ناجي علوش وأبو داود منه قد أفضى إلى أن يصبح "أكثر تمايزاً وترابطاً وقوة ووحدة" (76). لكن يبدو أن معين لا يمتلك معلوماتٍ كافية عن "الكتيبة الطلابية"، ولا عن كيفية تأسيسها، أو من كان يقف وراء تأسيسها. لقد نفى أن خلف التجربة فكرة بناء حزب شيوعي عربي، وأشار إلى أن هناك من انضم إلى التجربة كان يحمل هذه الفكرة (ويذكر أسماء بعضهم)، وينفي الطابع الماوي لها، وأن الأمر كان يتعلق بالاستفادة من التجربتين، الصينية والفيتنامية فقط ("حوار مع معين الطاهر"، ص 28). لهذا يُشار هنا إلى "عدم معرفة"، ذلك أن "الكتيبة الطلابية" هي نتاج "بناء تنظيمي" تشكّل سنة 1972 داخل بنية حركة فتح، وضم مجموعات ماركسية لينينية وشيوعية، كانت تسعى إلى تأسيس بديل عن الأحزاب القائمة، بعضها (كما اتضّح فيما بعد) ذو هوى ماوي. حيث تشكلت هيئةٌ قيادية في تلك السنة، كان ناجي علوش هو الأمين العام فيها، وأبو داود (محمد داود عودة) المسؤول العسكري، وأبو نضال (صبري البنا) المسؤول المالي، ومنير شفيق المسؤول التنظيمي. ومن هذه الصفة نشأت علاقته بالمجموعات الطلابية التي شكلت السرية الطلابية، ثم التي بات اسمها: الكتيبة الطلابية، أو كتيبة الجرمق. وكان ناجي علوش "عنوان" هذا التيار، و"مركز تجميع" ماركسيين، يطمحون إلى بديلٍ ماركسي. وكان الهدف بناء حزب شيوعي عربي، يطمح إلى تحقيق الوحدة وتحرير فلسطين، في إطار ثورةٍ هي ثورة قومية ديمقراطية شعبية. وكان علوش متأثراً بالتجربتين، الصينية والفيتنامية، وترجم عدة كتبٍ عنها، كما كتب مستفيداً منها.
كان الخلاف الأول في الهيئة القيادية فكرياً، وسيبدو أنه خلافٌ كان يتضمّن خلافا سياسيا عميقا. فقد اكتشف ناجي علوش أن منير شفيق يعبئ التنظيم، الذي هو مسؤوله، في اتجاهٍ مخالفٍ لمنظور الهيئة القيادية، وما تأسس عليه التنظيم، أي التعبئة وفق منظور ماوي، على الرغم من أن منير شفيق بات ينفي أنه كان ماوياً، لكن كتابيه "الماركسية اللينينية ونظرية الحزب الثوري"، و"الماركسية اللينينية والثورة المسلحة"، اللذين هما تلخيص (بالمعنى الدقيق) لكتابات كبار الماركسيين (ماركس، إنغلز، لينين، ستالين، ماو...) كانت تنتهي بالدعوة إلى "أفكار ماو تسي تونغ". وهناك مؤشراتٌ فيما كُتب عن "الكتيبة الطلابية" (الكراس الصادر عن مكتبة الإسكندرية)، على الرغم من أن معين الطاهر يعتبر أن بعض من انضموا إلى الكتيبة كانوا يسعون إلى ذلك.
لهذا ردّ ناجي علوش "لم نخرج من تحت مظلة موسكو لكي نضع أنفسنا تحت مظلة بكين". ولهذا ركّز على "منطق الماركسية" التي ترفض النقل والتقليد، لمصلحة تحليل الواقع. والأسوأ أن منير شفيق أخذ بنمطٍ من الماوية ظهر متأخراً قبل وفاة ماو، وقام على أساس ما سميت "نظرية العوالم الثلاثة" التي تعتبر الاتحاد السوفيتي إمبريالية ناهضة، ولهذا فإن هذه الإمبريالية هي الخطر الأول، بينما باتت أميركا "نمرا من ورق"، حيث على ضوء ذلك تحقق الانفتاح الصيني على أميركا سنة 1972. وعمل منير شفيق على تعميم هذه النظرية على التنظيم، لكي يستنتج منها، كما كان "المصدر الأصلي" يستنتج، أن الخطر الآن هو الخطر السوفييتي، وأن هناك بورجوازية وطنية، لا بدّ من التفاهم معها ضمن هذا الصراع، منها إيران الشاه والسعودية.
وبالتالي كان الخلاف من الأساس حول المنظور، أي أية ماركسية، وأي إستراتيجية؟ وهذا ما شرحه أصلاً ناجي علوش في كرّاس أصدره نهاية سنة 1976، بعنوان "الخط العلمي الثوري 
والثورة القومية الديمقراطية" (إصدار دار الرأي/ مؤسسة القدس 1976)، حيث أشار إلى انتقال منير شفيق من النقل عن موسكو إلى النقل عن بكين، وبالتالي البقاء ضمن منظور نقلي تبعي. ورفض التأسيس لماركسيةٍ تعود إلى منهج ماركس، وليس اتباع هذا التيار الماركسي أو ذاك. هذا هو الخلاف المنهجي الذي تجسّد لدى منير شفيق بتبني "نظرية العوالم الثلاثة" التي تقوم على العداء للاتحاد السوفييتي (ولهذا أهميته في حالة شفيق)، وتنظير وجود "بورجوازية وطنية" متمثلة في شاه إيران والسعودية، وبالتالي الميل نحو أقصى اليمين، والتموضع في بيئة "الرجعية العربية"، وهذا ما يظهر واضحاً في كتابه "تناقضات الوضع العربي العام". وهذا ما ظهر في السياسة العملية في تلك الفترة (1975/ 1976)، حيث اصطفّ مع التحالف التابع للنظام السوري (تحالف كمال شاتيلا، وجزء من القوميين السوريين، وأحمد جبريل والصاعقة)، وأيد دخول الجيش السوري لبنان، ورفض "عزل" القوى الانعزالية. وهو ما يوضحه معين الطاهر بالتالي: "المستوى الأول: الموقف من القيادة الفلسطينية، واعتبارهما (ناجي وأبو داود) أن هذه القيادة خائنة، ونحن رأينا أنها قيادة وطنية. المستوى الثاني: الخلاف بشأن العديد من المسائل في الأزمة اللبنانية، مثلاً: موضوع حزب الكتائب، العلاقة مع موسى الصدر، الإدارة المدنية، العلاقة مع الحركة الوطنية، كيفية إدارة الأزمة اللبنانية بصورة عامة. المستوى الثالث: موضوع التضامن العربي ونظرتنا إليه" (حوار ص 30).
بالنسبة للمسألة الأولى، لم يكن الأمر يتعلق بالخيانة، بل بالسياسة التي ستفضي إلى دمار القضية الفلسطينية، وبهذا كان ناجي علوش أحقّ، وموقفه كان الأكثر دقة. أما الأزمة اللبنانية، بغض النظر عن التفاصيل، لأن الحرب الأهلية بدأت بعد الانقسام، بالتالي كان الخلاف المبدئي يتمثل في أي صفّ نقف، وواضحٌ أين وقفت "الكتيبة الطلابية". أما التضامن العربي فقد كان كارثة. طبعاً هذه المسائل تُطرح تحت عنوان أولوية فلسطين، وأن الخلاف مع ناجي علوش كان على أولوية فلسطين، لنلمس أن هذه السياسة وضعت الكتيبة في سياق مشروعٍ رجعيٍّ تدرّج إلى أن أوصل إلى معاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة واتفاق أوسلو. بالتالي كان التنظير الأيديولوجي البرّاق (الماوية) المدخل لتطويع شبابٍ كان يريد الثورة والتغيير، لكي يخدم في صفّ الرجعية. وهذا أخطر ما حدث خلال تلك الفترة، وسيظهر المسار بعد، بالإجابة على السؤال: إذ أين استقرّ هؤلاء بعد جملة تحولات أيديولوجية؟ انتقل منير شفيق، بعد الثورة الإيرانية، من دعم الشاه إلى حضن الخميني، ومال نحو الأسلمة في خط الخميني. وهو الوقت الذي بدأت فيه أميركا تحشيد الحركات الأصولية في حربٍ ضد السوفيت في أفغانستان، وليتصاعد التعصّب الشيعي من طرفٍ استناداً إلى إيران، والسني من طرف آخر مدعوماً من السعودية وأميركا ودول عديدة أخرى. وينتهي منير شفيق مع الإسلام السياسي.
يتعلق الأمر هنا، خصوصاً بعد سنوات من التجربة، وبعد أن تكون قد انتهت، بتقييمٍ للسياسات التي مورست. وليظهر هنا أنه، على صعيد الموقف والتحليل، كان موقف ناجي علوش ومجموعته هو الأدقّ، وبالتالي أن كل النضال من أجل فلسطين (مع ضرورته) غرق في مستنقع سياسات حركة فتح و"التضامن العربي". على الرغم من أن تنظيم ناجي علوش كان يقاتل ضد العدو الصهيوني، ولم يكن يعتبر المسألة مؤجلة، لكنه كان يرى أنه من دون تغيير الواقع العربي ستبقى كل محاولة لتحرير فلسطين محاصرةً، وأن جنوب لبنان ليس مؤهلاً لتحرير فلسطين. ولهذا كان يعتقد بأنه من دون حزب ثوري عربي سيبقى كل خطابٍ يطالب بتحرير فلسطين، أو كل نضال جزئي، بلا معنى. ولهذا اندثرت الكتيبة الطلابية، كما اندثرت الفصائل الفلسطينية، وسُدَّت حدود فلسطين. وهنا أشير إلى أن "أولوية فلسطين" لم تفضِ إلى شيء، سوى كتب تتناول الذكريات، ونضالات وشهداء، واستسلام القيادة التي أصرّت "الكتيبة الطلابية" أن تبقى تحت جناحها.
لم تكن تجربة ناجي علوش ناجحة كذلك، وهذا لأسباب أخرى (شرحتها في كرّاس)، ولكن، على الأقل، كان الموقف الذي حكم التجربة صحيحاً، وكنّا ممن كانوا يفضحون سياسة "القيادة الفلسطينية"، بالإشارة إلى المصير الذي تقود الثورة والقضية إليه، وهو ما بات واضحاً في "أوسلو".
المفاجئ في كتاب معين الطاهر "تبغ وزيتون" (ص 145) قوله إن الكتيبة الطلابية شاركت في الهجوم الذي تعرّضت له قواعد أُقيمت في جنوب لبنان بعد الاجتياح الصهيوني سنة
 1978، من "فتح المجلس الثوري"، التنظيم الذي تشكّل نهاية سنة 1976 بتوحيد مجموعات ناجي علوش وأبو نضال، والتي ذهبت لقتال العدو الصهيوني. لقد أشاعت قيادة حركة فتح أن هذه المجموعات قدمت من أجل "عمل انقلاب" على قيادة حركة فتح، وأنها تريد التمركز في الجنوب لهذا الهدف، لكن في الواقع (وكان يجب أن أكون ضمن الـ 120 مناضلا الذين ذهبوا) كان الهدف الحقيقي هو قتال العدو الصهيوني، وأن قيادة فتح تعرف ذلك جيداً، لكنها لم تكن تريد القتال، فقد أعلنت القبول بوقف إطلاق النار. حينها جرت مطاردة ناجي علوش، كما جرى إعدام قائدي مخيم تل الزعتر، أبو أحمد وأبو عماد، اللذين كانا مع ناجي علوش، فقط لأن زعيم حركة فتح، ياسر عرفات، كان يريد تسليم المخيم، ورفض هذان البطلان قراره، لهذا استغلّ مشاركتهما مع ناجي علوش في قتال العدو الصهيوني، ليصدر حكماً بالإعدام عليهما. كما جرى اعتقال كل المجموعة التي كانت تقيم في معسكرين.
في المجمل، كان الخلاف بين مجموعة ناجي علوش والكتيبة الطلابية التي يشرف عليها منير شفيق أعمق من أن يجري ابتساره بالطريقة التي باتت تتكرّر، سواء من معين الطاهر أو منير شفيق، فهو خلاف عميق، ويقوم على أساس: هل نخضع للمنطق السائد، ونكيّف الأعضاء وفقه، أو نحاول تجاوزه وبناء ما يسهم في التغيير الحقيقي؟ التكيف مع "التضامن العربي"، ثم مع الإسلام السياسي، أو السعي إلى تأسيس رؤى جذرية وقوى جذرية؟ والفارق هنا كبير، على الرغم من فشل التجربتين، حيث أسهمت تجربة الكتيبة الطلابية في مسار انحداري، وكانت تُخضع عناصرها لسياسات قوى "رجعية"، و"تسبح مع التيار"، من الماوية إلى الخمينية إلى الإسلام السياسي. وهذه كلها فقاقيع الهزيمة، ولم تكن قوى تغيير، على الرغم من الضجيج حول فلسطين والمقاومة والسلاح. بينما، طرحت تجربة ناجي علوش تصوراتٍ وأفكارا في سياق ضروري، وليس من سياق غيره: تأسيس حزب شيوعي عربي، وماركسية لا تتبع تياراً، بل تنطلق من فهم الواقع بناء على منهجيتها. وربما كانت إحدى نقاط ضعفها العلاقة مع أبو نضال (صبري البنا) ومجموعته، وهذا ما كان لي رأي فيه منذ البدء، لهذا لم أوافق على تأسيس فتح/ المجلس الثوري. وهذا شأن آخر.

دلالات