بالنسبة للجدار الذي راح يشقّ تلال فلسطين وسهولها منذ أكثر من عقد، ماذا يمكن للمرء أن يكتب حوله؟ بل لماذا عليه أن يفعل ذلك، أو حتّى أن يلقي ببصره فوقه؟
هنالك صور كثيرة التقطت له أو في محيطه، أجدني أمتنع عن النظر إليها جميعاً قدر ما استطعت، تماماً كما أجدني أحيل ببصري بعيداً عنه كلّما انبثق أمامي خلال تنقلي من مدينة إلى قرية أو من حي إلى آخر، أو عبوري من مرجٍ إلى امتداده، ذلك بعد المرّة الأولى التي رأيته فيها. كان قد ظهر فجأة. ألواحٌ أسمنتية متلاصقة امتدّت على طول الطريق وراحت تفصل بين المسار الأيمن والمسار الأيسر للشارع الرابط بين القدس ورام الله. وبينما سارعت عيني اليسرى لتستكين إلى كسلٍ غير معهود، إذ لا شيء أمكنها أن تراه على الجهة اليسرى من المشهد سوى لون رمادي خشن للجدار، راحت عيني اليمنى تجهد في محاولة التعرّف على المكان من جديد، بعد أن اختفى شقّه الأيسر بالكامل، ومعه كلّ ما عشتُ فيه، لدرجة بدا معها أن هذا الجدار قام بعملية شطب لأجزاء من الذاكرة. فقد أصبح ما كان حتّى تلك اللحظة، مكاناً حميمياً أمضيت فيه العديد من سنيّ حياتي، مكاناً غريباً كليةً، لم يعد بمقدوري أن أتبيّن أحياءه أو أن أهتدي إلى تلك الطرقات التي طالما سرتُ فوقها ولا إلى تلك البيوت التي زرتها. وفي تلك اللحظة أدركت أيضاً بأنه بفقدان نصفه، يتحوّل المكان إلى مختلف تماماً وغير مألوف، وليس فقط إلى مكان معهود اختفى نصفه. بل أنه من الآن فصاعداً لن يعد من الممكن رؤية ما تبقّى من أجزائه كما اعتدتُ، مثلي مثل الكثير، على رؤيتها حتى تلك اللحظة. فهي ليست أكثر جزءاً من مكان، إنما بقاياه المتروكة. وكلّ من سيراه للمرّة الأولى منذ هذه اللحظة فقط، لن يعرف هذا المكان كما عرفْتُه أو عرَفَه الذين رأوه قبل أن يسدل الجدار ألواحه فوقه.
أخيراً أدير ببصري بعيداً منه ومن فعل السلب الذي يأتي عليه، حيث تروح عيناي تبحثان عن كلّ ما هو مرئي، عداه. على الأقلّ بعدم النظر إلى الجدار، والإصرار على النظر إلى كلّ ما هو هنالك حتّى حدوده الرمادية، يبقي لدى المرء بعض من الإحساس بالألفة مع ما تبقّى من المكان، وبالتالي الحدّ من الاحساس العارم بالفقدان الذي يخلِّفه.
وكما رحت أمتنع عن النظر إليه، رحت أمتنع عن الكتابة حوله طيلة هذا العقد. فكما يمحي النظر إليه ذكرى المشهد الذي يقف خلفه، تسلب الكتابة عنه ما لدى المرء من كلمات لا شأن لها به، لكن في اللحظة التي تبدأ فيها تدور حوله، لا تعود ترى سواه، وتصبح أسيرة ما يفرض من فَقْد وفَصْل. إنه يبتلعها داخل عدمه الثقيل. هذا ما يروح يجول في ذهني، حتى ألمح بغتة، حين يظهر أمامي ذات يوم، عبارة مخطوطة فوقه تتحدى صلابته وتحتال عليها، بإنكارها له. العبارة تقول بأنه لتبديل ولتوصيل عبوات غاز الطهو حتى البيت، يمكن الاتصال على الرقم التالي "...". هذه العبارة تحوِّل الجدار، الذي ما أن يضطر الواحد فينا لإدراك وجوده، ولو غيبياً، حتى يطبق عليه إحساسٌ ثقيل بالعجز بثقل ألواحه الاسمنتية، إلى لوحة إعلانات تقدِّم خدمة لوجه الله، مثله مثل أي جدار قديم، أو سور، أو حائط هزيل، أو جدار بيت، أو حتى قصاصة ورق بالية.
إن كان الجدار يأسر كلماتنا كلّما حاولنا الحديث عنه، ويدعنا نفكّر في حدوده من دون القدرة على تأمّل أي شيء سواه، ربما الأجدر بنا أن نفعل كما فعل بائع عبوات غاز الطهي ذاك، ونسلب منه مهمته الرئيسية ألا وهي فصلنا، عبر منحه مهمة جديدة، نختارها له نحن. أو يمكننا عمل العكس تماماً، بأن ننظر إلى كل جدار، أكان سوراً عظيماً، أو حائطاً هزيلاً، أو سياجاً قديماً، أو جدار غرفة، كما لو أنها ذلك "الجدار" الفاصل بين أحياء وسهول ومدن وقرى فلسطين، بحيث يصير بإمكاننا أن نستعير كلّ ما يقوله عنه أولئك الذين شيّدوه، للحديث عن تلك الجدران التي نصطدم بها يومياً من دون أن تثير فينا الإحساس بالظلم، أو بأنها جدران تُفْقِد المرء قدرته على الانتماء لما يحيط به. ولم لا نبدل الأدوار بين الجدران، أو حتى نمنحها أدواراً جديدة كما فعل بائع عبوات غاز الطهو، مقوِّضين قدرتها أينما حلّت، أكانت جزءاً من مبنى سكني أو من سياسة محتل، على الفصل بيننا كما احتجازنا.
هنالك صور كثيرة التقطت له أو في محيطه، أجدني أمتنع عن النظر إليها جميعاً قدر ما استطعت، تماماً كما أجدني أحيل ببصري بعيداً عنه كلّما انبثق أمامي خلال تنقلي من مدينة إلى قرية أو من حي إلى آخر، أو عبوري من مرجٍ إلى امتداده، ذلك بعد المرّة الأولى التي رأيته فيها. كان قد ظهر فجأة. ألواحٌ أسمنتية متلاصقة امتدّت على طول الطريق وراحت تفصل بين المسار الأيمن والمسار الأيسر للشارع الرابط بين القدس ورام الله. وبينما سارعت عيني اليسرى لتستكين إلى كسلٍ غير معهود، إذ لا شيء أمكنها أن تراه على الجهة اليسرى من المشهد سوى لون رمادي خشن للجدار، راحت عيني اليمنى تجهد في محاولة التعرّف على المكان من جديد، بعد أن اختفى شقّه الأيسر بالكامل، ومعه كلّ ما عشتُ فيه، لدرجة بدا معها أن هذا الجدار قام بعملية شطب لأجزاء من الذاكرة. فقد أصبح ما كان حتّى تلك اللحظة، مكاناً حميمياً أمضيت فيه العديد من سنيّ حياتي، مكاناً غريباً كليةً، لم يعد بمقدوري أن أتبيّن أحياءه أو أن أهتدي إلى تلك الطرقات التي طالما سرتُ فوقها ولا إلى تلك البيوت التي زرتها. وفي تلك اللحظة أدركت أيضاً بأنه بفقدان نصفه، يتحوّل المكان إلى مختلف تماماً وغير مألوف، وليس فقط إلى مكان معهود اختفى نصفه. بل أنه من الآن فصاعداً لن يعد من الممكن رؤية ما تبقّى من أجزائه كما اعتدتُ، مثلي مثل الكثير، على رؤيتها حتى تلك اللحظة. فهي ليست أكثر جزءاً من مكان، إنما بقاياه المتروكة. وكلّ من سيراه للمرّة الأولى منذ هذه اللحظة فقط، لن يعرف هذا المكان كما عرفْتُه أو عرَفَه الذين رأوه قبل أن يسدل الجدار ألواحه فوقه.
أخيراً أدير ببصري بعيداً منه ومن فعل السلب الذي يأتي عليه، حيث تروح عيناي تبحثان عن كلّ ما هو مرئي، عداه. على الأقلّ بعدم النظر إلى الجدار، والإصرار على النظر إلى كلّ ما هو هنالك حتّى حدوده الرمادية، يبقي لدى المرء بعض من الإحساس بالألفة مع ما تبقّى من المكان، وبالتالي الحدّ من الاحساس العارم بالفقدان الذي يخلِّفه.
وكما رحت أمتنع عن النظر إليه، رحت أمتنع عن الكتابة حوله طيلة هذا العقد. فكما يمحي النظر إليه ذكرى المشهد الذي يقف خلفه، تسلب الكتابة عنه ما لدى المرء من كلمات لا شأن لها به، لكن في اللحظة التي تبدأ فيها تدور حوله، لا تعود ترى سواه، وتصبح أسيرة ما يفرض من فَقْد وفَصْل. إنه يبتلعها داخل عدمه الثقيل. هذا ما يروح يجول في ذهني، حتى ألمح بغتة، حين يظهر أمامي ذات يوم، عبارة مخطوطة فوقه تتحدى صلابته وتحتال عليها، بإنكارها له. العبارة تقول بأنه لتبديل ولتوصيل عبوات غاز الطهو حتى البيت، يمكن الاتصال على الرقم التالي "...". هذه العبارة تحوِّل الجدار، الذي ما أن يضطر الواحد فينا لإدراك وجوده، ولو غيبياً، حتى يطبق عليه إحساسٌ ثقيل بالعجز بثقل ألواحه الاسمنتية، إلى لوحة إعلانات تقدِّم خدمة لوجه الله، مثله مثل أي جدار قديم، أو سور، أو حائط هزيل، أو جدار بيت، أو حتى قصاصة ورق بالية.
إن كان الجدار يأسر كلماتنا كلّما حاولنا الحديث عنه، ويدعنا نفكّر في حدوده من دون القدرة على تأمّل أي شيء سواه، ربما الأجدر بنا أن نفعل كما فعل بائع عبوات غاز الطهي ذاك، ونسلب منه مهمته الرئيسية ألا وهي فصلنا، عبر منحه مهمة جديدة، نختارها له نحن. أو يمكننا عمل العكس تماماً، بأن ننظر إلى كل جدار، أكان سوراً عظيماً، أو حائطاً هزيلاً، أو سياجاً قديماً، أو جدار غرفة، كما لو أنها ذلك "الجدار" الفاصل بين أحياء وسهول ومدن وقرى فلسطين، بحيث يصير بإمكاننا أن نستعير كلّ ما يقوله عنه أولئك الذين شيّدوه، للحديث عن تلك الجدران التي نصطدم بها يومياً من دون أن تثير فينا الإحساس بالظلم، أو بأنها جدران تُفْقِد المرء قدرته على الانتماء لما يحيط به. ولم لا نبدل الأدوار بين الجدران، أو حتى نمنحها أدواراً جديدة كما فعل بائع عبوات غاز الطهو، مقوِّضين قدرتها أينما حلّت، أكانت جزءاً من مبنى سكني أو من سياسة محتل، على الفصل بيننا كما احتجازنا.