الكتابة جواز سفري وانتمائي الطبقي

27 نوفمبر 2018
+ الخط -
كذلك غمغمت الحروف الغامضة.. أن اكتب تكُنْ واقرأْ تجدْ.. على لسان درويش فلسطيني وليس ذاك الصوفي رغم أن الفارق بينهم خيط هباء واهٍ وواهن.

لماذا أكتب أو أقرأ؟
واحد من الأسئلة البديهية، المُلغزة، المُستفزة والمُعجزة في نفس الوقت. وكبير الإشكالات التي تستنزفك، تستجوبك حتى تُجيبها.

لرُبما، من المحتمل، أعتقد أني..
سأكتب لأن القلم الأزرق هو جواز سفري الأحمر نحو تدشين عيش ثانٍ، لذات قادمة من قاع العدم الطبقي في مجتمع بمواصفات هزيلة، لم يسمح لها يوماً بالإفصاح عن سفرها القاصد. أو تُقدم أوراقاً ثبوتية إثبات تفوقها، حتى تصير بريئة من قرائن حياة زائفة وجافة. لتكون الحروف شهادة ميلاد - ولو أنها غير رسمية -، مع ذلك تفرض نفسها على منعرج المصير الإنساني. هي، إذن أشبه بهفوات الخطوات التي يحبوها الرضيع أول الأمر. فقد يتعلم المشي والتحليق بعدها أو يكُن من المُقعدين، إذ يكفيه فخراً شرف المحاولة.

سأكتب لأن المداد ناطق رسمي باسم أمثالي المتشبهين بالأشباح، أولئك الذين رضعوا من عقم الحياة، متحالفين مع المحرومين من جودها الزائف أحياناً: فلا هم من سلالة نقية تبوأت عرش سجلات الحالة المدنية على مر التاريخ من قواد أفذاذ وباشوات وأعوان ورجال أعمال أغنياء.

ولا هي وريثة تقليد علمي مخلد في أرشيف المكتبات. حتى إكراميات النقل ومقالع الرمال لم نعرف شكلها، لأننا كنا بعيدين عن موقع التوزيع.. بعيدين جدا، لا نعرف له عنوان. هو أيضا لا يجهل جملة إحداثيات موقع قريتنا رغم القمر الاصطناعي باهظ الثمن، الذي اشتراه مؤخرا بحزمة دولارات حار فيها اختصاصيو المال. حتى القطار الذي يوصل إلى مجمع الصدَقة هذا في تفريق الحقوق، ينقلب ساعة تغضب سككه البالية الهشة، التي ما زلنا نسير عليها منذ "إيكس ليبان". لتعلن خطوطها بهذا العطب القاسي خطوة احتجاجية على تفاقم أزمة طال زمنها.. وتنمية مؤجلة المولد والانوجاد رغم فوات تسعة أشهر بل قرون، بسبب أن حيوانها المنوي السياسي قوة دفعه ضعيفة لم يُحقق التخصيب أصلاً. بذلك يمسي لا مناص من تبني نماذج تنموية لقيطة في جميع المجالات لا تغني من جوع أو عدالة أو تقدم أو حقوق إنسان.


ما علينا. هذا حديث كبير دنيء.. يؤدي التمادي فيه إلى موقع على شكل واد سحيق "بودي فستين داهية"، وهو بالتالي يُؤْذي صاحبه. يجعلهُ والداً شرعياً مولداً للفتنة وولداً طيعاً لها. فضلاً عن تصنيفه عدو الوطن اللدود، مع أنه شخص ودود، عاجز عن سحق دود التمر الرخيص ذي السبعة دراهم القادم من مدينة الريصاني أو زاكورة في حافلة مهترئة يستهزئ بها سياح الصحراء وهم يراقبونها حين تهتز مع رجاتها جُنوب راكبيها في مطبات الجبال.

بدأت أفهم سبب كون أبناء الجنوب الشرقي أشد المحاربين علماً، فلا عجب أنهم استبدلوا الساطور والسكاكين بأسلحة فتاكة كان أولها قلم.

هذه الملحاحية في الذود عن كرامة المواطنين، تجعل الحروف التي نخُطها رد اعتبار ضرورياً حد الحتمية، احترام يصل إلى حد القداسة لهبة الخيال الممنوحة لنا، التي إن أهملناها نكون قد أخللنا بواحد من أركان إنسانيتنا الذي لا يُجبر بالندم أو الحسرة. وعليه، تبدو كتاباتنا رحلة متذبذبة بين الفشل و الفلاح نحو توازن وجودي، يطلب حقه منا، باعتبارنا إرادات فاعلة مساهمة في لعبة الحياة لا متفرجة متثائبة بسبب مللها القاتل. إن هناك الكثير من الأشياء تستوجب الكتابة عليها ذما أو مدحا أو شرحا. وعلى هذه الأرض العديد من الأشخاص ينبغي التدوين لهم، إما احتفاء أو احتراما أو حتى احتقارا.

لا يهم..
سأكتب لأن فؤادي الذي تتزاحمُ فيه الهموم والأماني لتنساب متدفقة منه، هو حلبتي الوحيدة، التي لم يقتحمها التافهون وسدنة الحمق بعد، بعدما احتلوا البيوت والشاشات والصفحات، بل والنيات. مزينين مقابر التفاهة.. في وجه أشباهي الذين احتموا بسلطان القلم كآخر قلاع الحلم.

سأكتب بقلم متعدد الألوان لأستعصي على كل تصنيف يمارس الحيف، حتى أصير شخصا هلاميا عابرا للوضعيات والفصول البشرية، لم تُقزمه علامات ترقيم داخل قوقعة عرجاء وحيدة. قد تكون أ 59 أو د.8 أو ب 26.

فتارة. ستُعلنُ قطرات حبري عن قهقهات ثغري الباسم على استحياء، يملأ الأثير المتناثر ضحكات مجنونة. فما قيمة علاقة انتحارية بين القلم والمحبرة إن لم يكن ساردها مبتلى بالكوميديا.. المُؤقتة؟، العارضة طبعاً. فنحن المغاربة لم يُقدر لنا الضحك أبد الدهر.

انتبهوا للقائلين بعامية بليغة "الله يخرج هاد الضحكة على خير". لن أحفل بهم. فأنا وأنا أنفضُ غُبار تقاعسي لخوض حروب الدرب المضنية، لن أنسى التعريج على خيام الفرح القصيرة، المنصوبة في أيامي موسمياً: سواء تضمنت فرق الأمداح، "كومندوهات" الشيخات بأطيافهن وأحجامهن العديدة، أو جحافل الكوميديين التعساء. إذا أردت أن تقتل، فلا تستعن بالغضب، بل اسْتعنْ بالضحك.

فهيا بنا نقتل الروح الثقيلة.. هكذا دندن نيتشه ذات سطر على لسان زرادشت. ألم يقل الفرنسيون، شيعة نيتشه غير الشرعيين، مثلهم الشهي: les gens qui ne rient pas ne sont pas sérieux. وهي فكرة استنسخها المصريون منهم زمن غزو نابليون لهم حين قالوا بدارجتهم: "إوعا تكشر لا حسن وشك يأشر (يتقشر)". فكيف لا تدمع ضحكا عند مشاهدتك لعادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين وهو يردد درس النشاط العلمي: "يتبربر بالبرودة ويتحرحر بالحرارة" أو الممثل سعيد صالح في مشهد العيال كبرت وهو يخاطب أباه الذي عاتبه: "خلفتونا ليه .. ليه .. ما مشيتوهاش بوس بوس بس ليه...".

لكن ضحكك الخالص هذا ما يلبث أن يتلاشى وتضيع قشرته شر ضياع لحظة تذكرك أنك ابتسمت وقهقهت بعربية محتضرة وعروبة مشروخة الهوية والكيان. وفق مغربية حكم عليها إله السخرية والضحك الإغريقي "موموس" بالشقاء الأزلي، باعتباره تعريفها المطلق الذي لا يليق معه الضحك إلا عرضا. لقد صدق شاعر تونسي حين اعترف: "قشري ضحكتي تجدي دمعتي".

من ثم، ستردفُ قهقاتي المختالة هذه في الورقة همهماتي المهمومة الحزينة في سيلان حبري مبختر، حارق، صارخ ملء جوفه، حد البكاء حدادا على تضييع أجيال برمتها أعاين أماراته يومياً في الفصل، أدى إلى تصنيع طفولة أشبه ببضاعة كاسدة وضياع إنسانية بمجملها. والخلاصة أو بالأحرى العصارة العسيرة على التقبل تصنيع كينونانتا المُعذبة بإفراط، خاصة حين راودتني صورة الصبي الذي اعترض بصري على قارعة الطريق، وهو يترجى بحركة يده على فمه الراكبين في سيارتهم المستأجرة من البنك، عساهم يشتروا منه لترين من اللبن ودلو تين بري. بفضل ثمنهما سيدفع أجرة النقل المزدوج الذي سيذهب به إلى المدرسة في عز شتاء قارس، يقتحم صباحه بـ"صندالة" بلاستيكية خاوية من جوارب دافئة. بعدما يكون نسي - في خضم قطفه للتين - تحضير نص في التربية على المواطنة يتحدث عن الحكامة والتوزيع العادل للثروات مسبوق صباحاً بنشيد يجمع بين الله والوطن في تشكيلة لغوية تثير غثيان كل ذي ذرة من الحس الأخلاقي. في هذه اللحظة/ وأنا أصور هذا السيناريو الواقعي المتكرر ملايين المرات مع فارق التفاصيل ووحدة القبح، زمجر قلمي واهتز احتجاجا، بعدما خانتني جيوبي المثقوبة، وصانتني في كرامتي بضع دمعات صامتة.

ألم تسمع قولهم الحق: أنفسنا لا تميل إلا لما كتبه الإنسان بدمه. وأحيانا بدمعه. ولقد نشر الرفاق في جامعتي مرات عديدة لافتة ماركس: "فقط الأفكار التي نسقيها بدمنا تعيش". كذلك الأحاسيس. فكي تبقى حية لا بد من رشها بماء ورد الدموع كبرهان على مصداقيتها. أما في حالة تدوينها كتابة فيكفي حمل قلم على شكل رمح يخترق الروح فيلوح دخان حرائقيتها.

ما يزكي واجب الكتابة أيضا، كونها فعل انعتاق بطيئاً ومدمياً لروح تشققت بفعل ترسبات تربية مشوهة، مشبوهة. أصابتنا ونحن في غفلة من أمرنا حين كنا حفاة، عراة نتسلق أعمدة الكهرباء لنسْرقَ مصابيح الدولة أو نكسرها إن لم نستطع لذلك سبيلا. لم نجد آنذاك مرشدين لصراط التعلم، يُفسرون لباحات عقولنا الغرة البريئة الساذجة، أننا بصدد توقيع اتفاقية خاسر - خاسر مع الدولة: نحن نسرق مصابيحها وكابلاتها الغالية، وهي في الوقت نفسه تخطف طفولتنا الغرة مع مستقبلنا الموعود. معولُها الحادُ في ذلك كتب نُصوصها ضبابية بحروف باردة أقرب إلى طلامس المشعوذات صاحبات الشعر الأشعث. توازيها تمارين تطبيقية جزافية بأرقام بالية، لاكتها كلها ببغائية مُتكررة سنوات ألسنة معلمين وأساتذة يقاومون العشر الأواخر من الشهر. وهم بذلك استبدلوا معركة العلم الجليلة بمنازلة هزيلة ضد يومية زمن. وزعتها عليهم صيدلية تبيع السم بثمن قاروني.

طبعا وقع هذا بمباركة فعلية أشبه بغطاء جوي من قرارات سياسية حملت غالبا نفحة الموت المظلم للتعليم: انطلاقا بميثاق وطني غير غليظ للتربية والتكوين لا صلة له بالتربية إلا اسما. آخر همه هو الوطن بهواجسه وتحدياته. رُقع على عجل سنة وفاة الحسن الثاني عندما كان المجال التعليمي يكابد سكرات الاحتضار. مرورا بكتاب أبيض هربوا من سواده ذي الدلالة السلبية ليسقطوا في إحالته عن الكفن الذي بات جاهزا ليدثر التعليم ويرافقه لمقبرة الجهل.

وصولا في الأخير لمخطط استعجالي فات أو فوتوا لحظته التي تجاوزت حتى مرحلة التنفس الاصطناعي غير مجد للإنقاذ، اللهم إلا لأولئك اللاهثين خلف حلب بقرة الميزانية. ليس يدويا وإنما آليا يستنزف الضروع الجافة أصلا.

فكيف لك أن تصمت؟