الكاميرا والثورة: الشاهد الوحيد الصادق للوجع والموت

19 ديسمبر 2014
توطّدت العلاقة بين المواطن والكاميرا (Getty)
+ الخط -
منذ بداية الحراك الثوري السوري، تميّز الحدث بعلاقة جديدة حصدت انتباه الملايين. يوم توطّدت العلاقة بين المواطن السوري والكاميرا التي باتت الموثّق الأساسي لمأساته.

تطوّرت العلاقة بين الناشط السوريّ الذي حمل كاميرا الموبايل في أيام الثورة الأولى لتسجيل المظاهرات صغيرةً كانت أم كبيرة، ومن الموبايل انتقل إلى كاميرا الديجيتال البسيطة قبل أن يُتقن استخدام كاميرات المحترفين. والناشط هو طالب جامعي، وأحياناً تلميذ في الصفوف المتوسطة أو الثانويّة، جذبته هالة العدسة، فقرّر التعرّف عن قرب على تلك الأداة، ليوظّفها في خدمة ما يُؤمن به.

وفي المُقابل، لا نزال حتى يومنا هذا، وبعد ما يناهز الأربع سنوات من بداية الثورة السورية، نتعرّف إلى سوريين وسوريات، لاجئين كانوا أم مواطنين عاديين، يهابون الكاميرا.
نشأت علاقةٌ وثيقة بين الناشطين والكاميرا. باتت الأخيرة تُمثّل شخصاً حقيقياً بالنسبة لهم. هي تارةً الحبيبة، وطوراً الصديقة أو الرفيق الشهيد. تدفعهم كاميراتهم يومياً نحو مخاطرات قد يراها صحافيون آخرون مستحيلة. يؤكدون أنّه لولا تلك العلاقة الوثيقة بينهم وبين الكاميرا، لما زادت حماستهم وترسّخ التزامهم بتوثيق ما يحصل في بلادهم. تنطلق قصتنا اليوم من المنطقة السورية التي تميّزت بكاميراتها حتى يومنا هذا، وحتى بعد ما يناهز السنة والنصف من الحصار، هي الغوطة الشرقية.

"عندما تتوقف كاميراتنا عن العمل، تُصيبنا حالةٌ من الهستيريا. توقّفت عدسة كاميرتي عن الاستجابة مرة، وكانت الغوطة محاصرة.. بدأت أجوب الأنحاء وأستعين بعدسات الأصدقاء للتصوير. عندما تُقصَف الغوطة، أوّل ما أفكر فيه هو كاميرتي، التي سيصعب استخدامها إن أصابتها شظية صغيرة حتى. بتُّ أتناسى الخطر المحدق بي، وكل ما أهتم به هو الحفاظ على الكاميرا، فأنا لا أهتم إن أُصبت.. كل ما يهمني هو سلامة الكاميرا". يقول يوسف لـ"العربي الجديد"، خلال وصفه العلاقة التي تجمعه بالكاميرا. هو ناشطٌ امتهن التصوير والتوثيق في الغوطة منذ أيام الثورة الأولى، ويُضيف: "أصبحت الكاميرا صديقة. هي الشيء الوحيد الذي عمل وما زال يعمل لصالح الثورة. أستطيع التعبير عن مشاعري من خلالها. إن خسرتها يوماً، قد يعني هذا اختفاء يوسف عن الوجود. بداخلي مشاعر تؤكد لي أنّ هذه الكاميرا جزء أساسي من قضيتي. قضية أؤمن بها، والكاميرا أيضاً جزء لا يتجزأ من طموحي". يشرح يوسف: "أنا وكاميرتي متلاصقان، يصعب فصلنا عن بعضنا. تُرافقني يومياً حتى لو لم ألتقط الصور".

يتحدث يوسف عن الكاميرا وكأنها حبيبته، يغار عليها، لا يسمح لها بالخروج والتجول وحيدةً. ترافقه وتؤنس وحدته. "لقد استطاعت الكاميرا إيصال صوتي وأصوات الآخرين خلال ثورتنا. تحدثت عن آلام الآخرين بواسطتها. عكست صور اليوميات والمعاناة التي باتت جزءا لا يتجزأ من واقعنا".

محمد، المصور الذي غادر الغوطة منذ أشهر قليلة بسبب إصابته، يتذكر كاميرته التي تركها: "اضطررت إلى ترك كاميرتي في سورية بعد أن رافقتني سنتيْن. ودّعتها، غمرتها، وقبّلتها، بعد أن كانت الشاهد الوحيد على معاناتي ويومياتي. أحزنتني فكرة تركها. كانت لحظة وداعها أصعب من لحظة وداع أصدقائي. لطالما رافقتني كاميرتي حتى خلال إصاباتي العديدة. عندما أصبت بالهاون للمرة الأولى، كانت كاميرتي حاضرة". ويُضيف: "عندما قررت الهروب إلى لبنان، دخلت خلسةً، وبالتالي لم أستطع أن أحمل معي أوزانا وأغراضا كثيرة بسبب مشقّة السفر. وجدت نفسي أمام خيارات صعبة. إحضار كاميرتي معي لم يكن خياراً. أحسست حينها أنني أترك ابنتي الصغيرة في أمانة أحدهم. كان موقفاً قاسياً، اضطررتُ للتعايش معه. مهمتها التقاط وتوثيق ما يحصل في الغوطة، أنا لا أستطيع إجبارها على المغادرة. أنا أثق بأنه سيهتمّ بها، هي في أيدٍ أمينة".

بعد وصول محمد إلى لبنان، شعر بحاجة ماسة لاقتناء كاميرا. "جمعت ما يكفي لشراء كاميرا متوسطة المواصفات. بعدها اشتريت كاميرا للمحترفين. طبعاً أنا اليوم مفلس بسبب صرفي المال على كاميرا، لكنني سعيد لأنني ألتقط الصور مجدداً. عدت لاصطحاب كاميرتي معي أينما ذهبت. أوثق اليوم كل اللحظات الجميلة والحزينة والمسلية. لديّ أرشيفي الخاص. اسم كاميرتي اليوم "سولي"، والثانية اسمها "نضال" كما سماها مالكها الأول. لكلّ إنسان إطار مناسب وصورة مناسبة. التصوير أصبح شغفي"، يختُم حديثه.



يتحدث عمار عن علاقته بالكاميرا بالكثير من الخجل: "يجمعني رابط قوي وغريب مع كاميرتي، هي الصديق المخلص. كاميرتي هي سلاحي. عند الذهاب إلى المعركة، عليّ اصطحاب الكاميرا معي، وإلا أحسستُ بضعفٍ وخوفٍ شديديْن، والخوف إحساس جارح بالنسبة لي. عندما أوثق أي شيء بواسطة الصور، جرائم أو اشتباكات أو حتى دمار، أشعر براحةٍ كبيرة؛ لأنّ الصور ستصل إلى الناس في الخارج، وسيرونها حتى إن فقدت حياتي، وسأعلم أنّي استعملت السلاح المناسب في الوقت والمكان المناسبيْن، وأني أتحت للناس فرصة مشاهدة ما يحصل. سأتمسك بسلاحي (الكاميرا) حتى النهاية".

من جهتها، تقول الأخصائية في علم النفس آية مهنا إنّ الكاميرا هي الأداة التي أتاحت لهؤلاء الشبان فرصة عرض ما تراه أعينهم. هي الذاكرة التي وثقت ما حصل، ذاكرة بصرية مجردة من المشاعر، وهي سهلة الولوج، كما يسهل التعمق بها، ويصعب دحض ما تُمثله. وتشرح: "هي طريقة جديدة أيضاً ليرى العالم بطولات هؤلاء الشبان. ساعدتهم الكاميرا في النجاح وشقّ طرقاتهم الخاصة قبل أن يدخل العنصر المادي في التصوير. كما أتاح لهم ذلك فرصةً ليشعروا بالانتماء إلى مجموعة معينة".

لعلّ ما جمع الناشطين بالكاميرا خلال الحرب الضارية، هو الصمت الذي تتميز به لحظات التقاط الصورة الأولى؛ حيث يطغى صوت ضغطهم على زر التصوير على صوت الحرب القائمة. من المؤكد أنّ لتلك الكاميرات قوةً استطاعت دفع الناشطين لمحاربة الظروف والصعوبات من أجل الحفاظ على تلك العلاقة المميزة.
دلالات
المساهمون