لا تتوقف أهمية حميد الشاعري عند كونه صاحب أغنيات شهيرة للغاية لم يذبل نجاحها منذ الثمانينيات حتى الآن، بل يمكن القول، بلا تردد، إنه صانع موسيقى البوب العربية في شكلها الأول.
في الوقت الذي اتسعت فيه الفجوة بين الأغنية العربية في شكلها التجاري الطويل، متمثلة في ألحان بليغ وعبد الوهاب لوردة وأم كلثوم وفايزة أحمد ونجاة وعبد الحليم، وأتباعهم من الشباب الذي حاول استكمال هذه الموجة ببعض التجديد، ولم ينجح، مثل علي الحجار وهاني شاكر ومحمد ثروت، وبين الحافة الأخرى للفجوة، وهي الفرق المجددة التي حاولت تركيب الأغنية العربية مضموناً على قوالب غير مستخدمة عربياً، مثل الجاز والبلوز والروك، وأحيانا في شكل موسيقي فقط، مثل فرق صلاح رجب ولوبتي شاه و"المصريين" و"الفور إم"، و ذلك ما لم يلق الجماهيرية المرغوبة حتى في ظل الانفتاح النسبي على العالم والتجربة، إذ ظلت الفجوة العميقة التي لم يملأها، بل ويبني فوقها نوعاً جديداً من موسيقى البوب العربية، سوى موسيقى حميد الشاعري التي حققت شعبية وأصبحت هي البوب الحقيقي لهذه المرحلة، من دون مشاريع أخرى لموسيقيين، مثل فتحي سلامة ويحيى خليل، عبر مغنين كـ عمرو دياب ومنير، اللذين وجدا نجاحهما وصوتهما الجماهيري الخاصين بعيداً عن هذه التجارب.
الشاعري، المصري الليبي، وإن استلهم تكوين الفرقة غير العربي بوجود الدرامز والغيتار والكيبورد؛ فهو لم يتخلّ عن استثمار تراثه المشترك بين مصر وليبيا من إيقاع راقص غالباً، مقسوم، مستخدماً الدفوف والطبلة والتصفيق. كما لم يتخل عن موروثه من الألحان الفطرية الصحراوية التي تتقبلها معظم البلاد العربية لألفتها للأذن؛ حيث تشارك الطبيعة ذاتها أغلب البلاد. كانت لديه الجرأة على تقديم نفسه باللهجة الليبية في ألبومه الثاني، لكن المعروف جماهيرياً الأول، وهو "رحيل" (1984) مع فرقة يحيى خليل، تحت اسم المزداوية، التي نعرف جميعا أنها نسبة إلى ناصر المزداوي، شريك نجاحه المبكر حتى اختلفا وانفصلا.
الكثير من الجرأة بدأ بها الكابّو، والتي للعجب حظيت بحفاوة الشعب المصري الذي يتحفظ على التجديد. استخدم مؤثرات صوتية مثل الصافرات وأصوات التكسير وصوت القطار. الشاعري لا يمتلك صوتاً قادراً من حيث المساحة والتطريب، لكن هذا الضعف لم يعقه لحظة من تقديم نفسه كمغنٍّ صاحب مشروع شخصي، عن طريق حيلة لم يستهجنها الجمهور، وهي تقديم صوته دائماً في صورة متكررة. في الأجزاء الصولو للغناء المنفرد، هو صوت متكرر (طبقات)، ولكنها أقل من الكورس الذي يحوي معالجات مختلفة لصوته.
نجح في صنع صوته المميز كمشروع موسيقي من خلال منتجاته لنفسه، أو لجيله الذي صنع كثيراً من نجومه. المقسوم الذي يتكون من درامز، وصاجات متراكبة متعددة الإيقاعات، والباص غيتار شبه الثابت على دوره، وهو الأساس غير المحسوس للأغنية، والغيتار الذي يلعب الهارموني في نمط رِتمي ثابت غالباً، وفانك مغاير للإيقاع، ويشارك في الرد على الغناء كآلة مصاحبة، وهو دور غريب على الغيتار حينها، إضافة إلى الكيبورد بأصواته المختلفة؛ إذ يصنع الأرضية بالكوردات الممتدة والمتقطعة، حسب النوع الموسيقي للأغنية، ويقدم عزفاً منفرداً (صولو) من حين لآخر، وأصبحت هذه بصمته الصوتية، إلى جانب بصمته في الغناء في دندنة الجمل الغنائية بصوته من دون احتوائها على كلمات، وكونها جزءاً لا يتجزأ ولا يمكن اختصاره من اللحن، بل هي أول ما يعلق بالذهن من الأغنية (اللازمة).
من جهةٍ أُخرى، قدّم الكابو مفهوماً جديداً للأغنية الوطنية، بعيداً عن التشدق بأمجاد الوطن الزائفة، أو الصراخ على الشاكين من أبنائه والأعداء المتوهمين على حد سواء، وهي صورة الحنين والرومانسية التي يكابدهما المهاجر عن وطنه لظروف أفضل لأسرته وله. هذا البعد الحميمي والواقعي والرومانسي كان أقرب إلى التعبير عن الشباب آنذاك في ظل الاضطرار الاقتصادي إلى السفر كوسيلة لإيجاد معيشة معقولة، قبل أن يعود إلى مفهوم الأوبريتات الوطنية التي تصنع بالطلب في المناسبات؛ الأمر الذي سنّه مبارك إبّان سنوات حكمه.
اقــرأ أيضاً
الخجل الذي بدأ به في الغناء، رغم كل هذه الجرأة في أول ألبومين، سرعان ما اختفى، لتكتمل جرأته ويمتلئ صوته وأداؤه بالثقة، ويفرض حميد الشاعري نفسه في الألبومات التالية، بل ويصنع موسيقى البوب التي استمرت لأجيال، منذ الثمانينيات حتى مطلع القرن الحالي. وما زالت اليوم تحظى بذات الحفاوة، نتذكّر منها أغاني لـ محمد منير، وعلاء عبد الخالق، ومحمد محيي، وحنان، ومصطفى قمر، وهشام عباس... والأغنية التي تعرفها أجيال اليوم، "لولاكي"، والتي باع صاحبها علي حميدة مليون شريط في سابقة من نوعها.
في الوقت الذي اتسعت فيه الفجوة بين الأغنية العربية في شكلها التجاري الطويل، متمثلة في ألحان بليغ وعبد الوهاب لوردة وأم كلثوم وفايزة أحمد ونجاة وعبد الحليم، وأتباعهم من الشباب الذي حاول استكمال هذه الموجة ببعض التجديد، ولم ينجح، مثل علي الحجار وهاني شاكر ومحمد ثروت، وبين الحافة الأخرى للفجوة، وهي الفرق المجددة التي حاولت تركيب الأغنية العربية مضموناً على قوالب غير مستخدمة عربياً، مثل الجاز والبلوز والروك، وأحيانا في شكل موسيقي فقط، مثل فرق صلاح رجب ولوبتي شاه و"المصريين" و"الفور إم"، و ذلك ما لم يلق الجماهيرية المرغوبة حتى في ظل الانفتاح النسبي على العالم والتجربة، إذ ظلت الفجوة العميقة التي لم يملأها، بل ويبني فوقها نوعاً جديداً من موسيقى البوب العربية، سوى موسيقى حميد الشاعري التي حققت شعبية وأصبحت هي البوب الحقيقي لهذه المرحلة، من دون مشاريع أخرى لموسيقيين، مثل فتحي سلامة ويحيى خليل، عبر مغنين كـ عمرو دياب ومنير، اللذين وجدا نجاحهما وصوتهما الجماهيري الخاصين بعيداً عن هذه التجارب.
الشاعري، المصري الليبي، وإن استلهم تكوين الفرقة غير العربي بوجود الدرامز والغيتار والكيبورد؛ فهو لم يتخلّ عن استثمار تراثه المشترك بين مصر وليبيا من إيقاع راقص غالباً، مقسوم، مستخدماً الدفوف والطبلة والتصفيق. كما لم يتخل عن موروثه من الألحان الفطرية الصحراوية التي تتقبلها معظم البلاد العربية لألفتها للأذن؛ حيث تشارك الطبيعة ذاتها أغلب البلاد. كانت لديه الجرأة على تقديم نفسه باللهجة الليبية في ألبومه الثاني، لكن المعروف جماهيرياً الأول، وهو "رحيل" (1984) مع فرقة يحيى خليل، تحت اسم المزداوية، التي نعرف جميعا أنها نسبة إلى ناصر المزداوي، شريك نجاحه المبكر حتى اختلفا وانفصلا.
الكثير من الجرأة بدأ بها الكابّو، والتي للعجب حظيت بحفاوة الشعب المصري الذي يتحفظ على التجديد. استخدم مؤثرات صوتية مثل الصافرات وأصوات التكسير وصوت القطار. الشاعري لا يمتلك صوتاً قادراً من حيث المساحة والتطريب، لكن هذا الضعف لم يعقه لحظة من تقديم نفسه كمغنٍّ صاحب مشروع شخصي، عن طريق حيلة لم يستهجنها الجمهور، وهي تقديم صوته دائماً في صورة متكررة. في الأجزاء الصولو للغناء المنفرد، هو صوت متكرر (طبقات)، ولكنها أقل من الكورس الذي يحوي معالجات مختلفة لصوته.
نجح في صنع صوته المميز كمشروع موسيقي من خلال منتجاته لنفسه، أو لجيله الذي صنع كثيراً من نجومه. المقسوم الذي يتكون من درامز، وصاجات متراكبة متعددة الإيقاعات، والباص غيتار شبه الثابت على دوره، وهو الأساس غير المحسوس للأغنية، والغيتار الذي يلعب الهارموني في نمط رِتمي ثابت غالباً، وفانك مغاير للإيقاع، ويشارك في الرد على الغناء كآلة مصاحبة، وهو دور غريب على الغيتار حينها، إضافة إلى الكيبورد بأصواته المختلفة؛ إذ يصنع الأرضية بالكوردات الممتدة والمتقطعة، حسب النوع الموسيقي للأغنية، ويقدم عزفاً منفرداً (صولو) من حين لآخر، وأصبحت هذه بصمته الصوتية، إلى جانب بصمته في الغناء في دندنة الجمل الغنائية بصوته من دون احتوائها على كلمات، وكونها جزءاً لا يتجزأ ولا يمكن اختصاره من اللحن، بل هي أول ما يعلق بالذهن من الأغنية (اللازمة).
من جهةٍ أُخرى، قدّم الكابو مفهوماً جديداً للأغنية الوطنية، بعيداً عن التشدق بأمجاد الوطن الزائفة، أو الصراخ على الشاكين من أبنائه والأعداء المتوهمين على حد سواء، وهي صورة الحنين والرومانسية التي يكابدهما المهاجر عن وطنه لظروف أفضل لأسرته وله. هذا البعد الحميمي والواقعي والرومانسي كان أقرب إلى التعبير عن الشباب آنذاك في ظل الاضطرار الاقتصادي إلى السفر كوسيلة لإيجاد معيشة معقولة، قبل أن يعود إلى مفهوم الأوبريتات الوطنية التي تصنع بالطلب في المناسبات؛ الأمر الذي سنّه مبارك إبّان سنوات حكمه.
الخجل الذي بدأ به في الغناء، رغم كل هذه الجرأة في أول ألبومين، سرعان ما اختفى، لتكتمل جرأته ويمتلئ صوته وأداؤه بالثقة، ويفرض حميد الشاعري نفسه في الألبومات التالية، بل ويصنع موسيقى البوب التي استمرت لأجيال، منذ الثمانينيات حتى مطلع القرن الحالي. وما زالت اليوم تحظى بذات الحفاوة، نتذكّر منها أغاني لـ محمد منير، وعلاء عبد الخالق، ومحمد محيي، وحنان، ومصطفى قمر، وهشام عباس... والأغنية التي تعرفها أجيال اليوم، "لولاكي"، والتي باع صاحبها علي حميدة مليون شريط في سابقة من نوعها.