القوة الناعمة الروسية: مفهوم ملتبس وأداء ضعيف

03 يوليو 2020
تخشى الدول المجاورة لروسيا من تمددها العسكري (Getty)
+ الخط -

نجحت روسيا في إثبات نفسها بقوة في ظلّ قدرتها على فرض أجندتها على الأرض باستخدام القوة العسكرية، لكن التعامل الروسي مع الأزمتين الجورجية (2008) والأوكرانية (2014 حتى اليوم) والحرب في سورية (2015 حتى اليوم) كشف عن خلل كبير في استخدام "القوة الناعمة"، مع عدم وجود رؤية روسية واضحة تحدد أدوات وأساليب هذه "القوة" وطرق توظيفها، والوقت اللازم لتحقيق نتائج تجنّب روسيا التورّط في حروب عسكرية مكلفة. ما تسبّب في زيادة خوف جيرانها من استخدام الأقليات الروسية أداة للتدخل، وفرض عقوبات على روسيا، وتعميق عزلتها الدولية. ورغم تخصيص مليارات الدولارات في السنوات الأخيرة من أجل تحسين صورة روسيا الخارجية، إلا أن الآلة الإعلامية الضخمة تعجز حتى الآن عن تغيير صور نمطية عن روسيا، يعود بعضها إلى بداية تسعينيات القرن الماضي.


نتائج "القوة الناعمة" لم تكن مرضية لروسيا في العقد الماضي

 

وكشفت طرق تعامل الكرملين مع أزمتي أوكرانيا وجورجيا عن فشل ذريع في استخدام أدوات "القوة الناعمة" بسبب النظرة الروسية المختلفة، المعتمدة على توظيف الاقتصاد كوسيلة إجبار وإكراه بدلاً من أن يكون وسيلة تحفيز، واستخدام القوة "الخشنة" بدلاً من التلويح بها، ما تسبب في قطيعة مع البلدين، وتخوّف في باقي بلدان الاتحاد السوفييتي السابق من لجوء موسكو إلى قوتها الهائلة لفرض رؤيتها، القائمة على منع اقتراب حلف شمال الأطلسي من حدودها، والحدّ من التأثير الغربي في القوقاز وآسيا الوسطى وشرق أوروبا.

وفي الحالتين، يظهر المفهوم الملتبس لـ"القوة الناعمة" والخلط مع الحروب الاقتصادية وحروب الطاقة وحتى التدخل العسكري المباشر، عملاً بالمقولة الروسية المعروفة "أن تخاف مني فهذا يعني أنك تحترمني"، رغم أنه كان يمكن أن توظف التلويح بالقوة واستخدام سلاح الاقتصاد، والأقليات الروسية، والإعلام بشكل يسمح لها بتجنب الصدام العسكري.

وفي الأشهر الأخيرة، سعت روسيا إلى استخدام وباء كورونا لتحسين صورتها، وأرسلت فرقاً عسكرية وطبية إلى إيطاليا وصربيا وغيرهما، كما أرسلت مساعدات للولايات المتحدة، وزودت بعض بلدان آسيا الوسطى بأدوات الفحص ومعدات طبية لمواجهة الفيروس.

ورغم اهتمام الكرملين باكراً بتعزيز "القوة الناعمة" في البلدان السوفييتية السابقة، خصوصاً بعد سلسلة الثورات الملونة في أوكرانيا وجورجيا وقرغيزستان في العقد الماضي، إلا أن نتائج العمل لم تكن مرضية. ففي عام 2008 أسس الرئيس فلاديمير بوتين، بمرسوم رئاسي هيئة "روسترودنيتشيستفو" (الوكالة الاتحادية ورابطة الدول المستقلة والمواطنين المقيمين في الخارج والتعاون الإنساني الدولي) بهدف العمل في المجال الإنساني في مختلف بلدان العالم، ورسم صورة في الخارج تعبر عن واقع روسيا المعاصرة. لكن أبرز نقاط الضعف في الهيئة أنها تركز أساساً على دعم فكرة "العالم الروسي" وهو شبكة مجتمعات صغيرة وكبيرة، تفكر وتتحدث اللغة الروسية، تشكلت خلال القرن الماضي نتيجة الثورات والتحولات التاريخية والحروب العالمية، حسب أفكار بعض علماء الاجتماع الروس. وأثار الأمر حفيظة معظم بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، خشية من استخدام الأقليات الروسية لاحقاً كذريعة للتدخل، كما يحدّ من عمل الهيئة مع المجموعات الإثنية التي تشكل غالبية المجتمعات المحلية من غير الناطقين بالروسية.

وتشرف هيئة "روسترودنيتشيستفو" الفيدرالية على عدد كبير من المراكز الثقافية والعلمية الروسية في العالم. وحسب الموقع الرسمي للهيئة، فإنها تملك 97 مكتباً تمثيلياً في 80 بلداً حول العالم، وتدير 73 مركزاً ثقافياً وعلمياً روسياً في 62 بلداً، كما تعمل على تقديم نموذج التعليم الروسي في الخارج وعرض الإنجازات العلمية. وتتولى الهيئة مهمة اختيار الطلاب الأجانب للدراسة في روسيا، وتولي اهتماماً خاصاً للعمل مع نحو نصف مليون من خريجي الجامعات والمعاهد الروسية والسوفييتية.


أدت الأزمة مع أوكرانيا إلى انشقاق كنيسة كييف عن كنيسة موسكو

 


وفي نهاية الشهر الماضي، عيّن بوتين عضو مجلس الدوما (البرلمان) الصحافي يفغيني بريماكوف (يحمل نفس اسم جده السياسي والمستعرب المعروف الذي شغل مناصب حكومية بارزة منها رئاسة الوزراء) رئيساً لهيئة "روسترودنيتشيسفو"، في خطوة، يأمل خبراء أن تسهم في زيادة نفوذ روسيا العالمي في المجالَين الإنساني والثقافي. وفي المقابل، يربط خبراء بين نجاح بريماكوف وبين إجراء تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الروسية، منها الكفّ عن توقع نتائج مباشرة سريعة من "القوة الناعمة"، والأهم عدم الانطلاق من كونها وسيلة ضغط لتحقيق الأهداف الجيوسياسية والأمنية عبر دمج الوسائل العسكرية وغير العسكرية معاً، من دون الالتفات إلى دورها كقوة جذب.

ومع زيادة تغلغل الصين والبلدان الأوروبية الثقافي في دول آسيا الوسطى وما وراء القوقاز، شعرت روسيا بخطر فقدان تأثيرها في هذه المنطقة الحيوية، فعمدت إلى فتح مدارس للغة الروسية لتجهيز الطلبة للدراسة في الجامعات الروسية. وحسب أحدث الإحصاءات، يتابع نحو 130 ألف طالب من هذه البلدان دراستهم العليا في روسيا، منهم قرابة 60 ألفاً على حساب الحكومة الروسية، مع توفير سكن ومنحة مالية شهرية. ويدرس في المؤسسات التعليمية الروسية العليا حالياً أكثر من 272 ألف طالب أجنبي.

وتملك روسيا عوامل عدة تؤهلها للمنافسة في مجال "القوة الناعمة" مع الغرب والصين في محيطها السوفييتي السابق، لكن السنوات الأخيرة كشفت تراجعها رغم ترابط سوق العمل، ومعرفة كثير من أبناء الجمهوريات السوفييتية السابقة اللغة الروسية، ما يسهل الأعمال التجارية ويسمح ببناء روابط اجتماعية وثقافية متينة، مع شريحة واسعة من السكان تتجاوز حدود العلاقات مع الجاليات الروسية التي تصل في بعض البلدان إلى نحو 20 في المائة من السكان. وتجمع روسيا وعدداً كبيراً من البلدان ثقافةٌ مشتركة، بعضها يعود إلى مئات السنين ولا يقتصر على التجربة السوفييتية. وإضافة إلى أنماط التفكير المتقاربة، يؤدي العامل الديني دوراً مهماً في بناء علاقات متينة مع أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدافيا. مع العلم أنه على الرغم من استخدام الكرملين الكنيسة الأرثوذكسية لتمرير سياساته داخلياً، والتوسع في المحيط السوفييتي وبلدان البلقان، إلا أن الأزمة مع أوكرانيا تسببت في أكبر شرخ للكنيسة منذ نحو ألف عام، وأدت إلى فصل كنيسة كييف عن كنيسة موسكو.

وبعيداً عن الفهم الخاطئ لدور "القوة الناعمة"، والاستعجال في جني النتائج، والتركيز على الناطقين بالروسية، يعجز الجانب الروسي عن ابتكار أدوات جديدة لزيادة تأثيره في المجتمعات المحلية المستهدفة، إذ يعمل كثير من الجمعيات والهيئات الغربية على دعم جهود المجتمعات في محاربة الأمراض مثل الإيدز والسكري وغيرهما، وتموّل نشاطات لدعم البيئة والطبيعة، وتساهم في نشر الوعي ضد العنف المنزلي، وتنظم ندوات ومؤتمرات تتعلق بقضايا مجتمعية واقتصادية وحتى سياسية بالغة الأهمية في الدول المستهدفة، ما يؤسس لرأي عام داعم للدول الغربية. ويوظف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مبالغ كبيرة لنشر القيم الغربية، وإظهار تطور المجتمعات وتكافؤ الفرص فيها، ما يشجّع كثيراً من النخب العلمية والاقتصادية على الهجرة. كما تجذب الدعاية الغربية كثيراً من الطلاب للدراسة مدفوعة الثمن في الجامعات والمعاهد المتطورة، وتزداد أعداد الراغبين بالعلاج في مستشفيات الغرب الراقية في حال توفر الإمكانات المادية. عملياً، إن الاستثمار بوسائل "القوة الناعمة"، يؤسس لتعاطف شرائح مجتمعية واسعة من ضمنها بعض النخب في مجالات عدة، إضافة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية على المدى البعيد.

في المقابل، ينظّم الجانب الروسي نشاطات ثقافية بهدف تسجيل الحضور وتقديم تقارير للقيادة، مثل الاحتفال بعيد ميلاد ألكسندر بوشكين أو فيودور دوستويفسكي على سبيل المثال، إضافة إلى المناسبات الدينية مثل عيدَي الفصح والميلاد، والوطنية مثل يوم النصر ويوم روسيا، كما تعمل المراكز الثقافية الروسية على تنظيم دورات لتعليم اللغة الروسية وتوزيع الكتب. وعلى أهمية كل ما سبق، فإن تأثير هذه النشاطات يبقى محدوداً مقارنة بإثارة قضية محلية ملحّة للنقاش، وإيجاد فرصة للحديث عن التجربة الروسية في الحل، إلا أنه من الواضح أن البيروقراطية الروسية أكثر "جبناً" من نظيرتها الغربية، وتصاب بالشلل بمجرد التفكير في أن ما يمكن أن تقوم به قد يكون ممنوعاً من قبل السلطات أو حتى يمكن أن يثير حفيظتها. وتحرص المؤسسات الروسية على العمل مع الهيئات الحكومية فقط ونادراً ما تتعاون مع مؤسسات مدنية.


لم تتمكن روسيا من فرض ثقافتها أو قوتها في العالم، رغم تراجع الدور الأميركي

 

ورغم تراجع الثقة بالنموذج الأميركي في نظر شرائح مجتمعية واسعة حول العالم، فإن روسيا لا تزال عاجزة عن تقديم بديل نظراً لعوامل ذاتية وموضوعية، فالثقافة الروسية ذات طابع نخبوي، واستخدام اللغة الروسية يبقى محدوداً في مجال العلوم مقارنة باللغة الإنكليزية، بالإضافة إلى أن النتاج الأدبي الروسي دخل في مرحلة عقيمة منذ عقود، ولا يمكن مقارنة مستوى المعاهد والجامعات الروسية بنظيراتها الغربية، فضلاً عن أن موازنات البحث العلمي متواضعة جداً. وفي مجال الفن، فإن السينما الروسية ليست جذابة كنظيرتها الأميركية. ومع استمرار بحث الروس عن هوية واضحة للمجتمع منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي ظل قمع السلطات للحراك الليبرالي، والتقييد على الحريات وحمل لواء العالم المحافظ على التقاليد، وأجواء عدم الاستقرار الاقتصادي، لا يعدّ النموذج الروسي جذاباً بالنسبة لمعظم الشباب الطامح للحرية، ولا يستهوي إلا المجموعات اليمينية المتطرفة في الغرب، وبقايا اليسار التقليدي المتشدد.

ومع تصاعد دور روسيا في الشرق الأوسط بعد تدخلها العسكري في سورية، وانخراطها في الأزمة الليبية، ومحاولات بناء منظومات جديدة تشارك فيها مع بلدان المنطقة لملء الفراغ الذي تركه تراجع الثقة بالولايات المتحدة، ترى أوساط أكاديمية روسية أن الفرصة مواتية أمام موسكو لزيادة تأثيرها، وتعزيز إنجازاتها العسكرية بفوائد سياسية واقتصادية، وتسويق نموذجها الخاص في ما يخص "القوة الناعمة".

في السياق، يشير رئيس قسم التحليل في معهد موسكو للعلاقات الدولية مكسيم سوتشكوف، إلى أن روسيا بدأت التحضير للتحول من صورة "اللاعب القوي" إلى "الراعي القوي"، بعدما استطاعت تثبيت صورتها كحليف لا يتخلى عن حلفائه. وفي مقال نشره على موقع "المجلس الروسي للشؤون الدولية" المقرّب من الخارجية الروسية، يوضح سوتشكوف أن روسيا لا تستطيع مجاراة الدعاية الأميركية بشكل كبير، لكن النظرة للدور الروسي بدأت تتحسن عند شريحة واسعة من سكان الشرق الأوسط والنخب الحاكمة الممتعضة من التصرفات الأميركية. ويلفت إلى دور وسائل الإعلام الروسية الناطقة باللغات الأجنبية في نقل الصور الحقيقية عن روسيا ودورها مباشرة للمتلقي العربي، الذي كان يستقي معلوماته من وسائل الإعلام الغربية. ورداً على آراء تقلل من إمكانية نجاح "القوة الناعمة" الروسية في الشرق الأوسط لاتّباعها سياسة تتراوح بين البراغماتية والمحافظة، يؤكد الأكاديمي الروسي أن "كلتا السياستين مناسبتان للعمل في الشرق الأوسط". ويخلص إلى أنّ على روسيا الترويج لنموذج جديد في العلاقات مع بلدان المنطقة في مواجهة النماذج الغربية والصينية، ويرى أنه "ربما يسمح لنا العمل النشط لسنوات في الشرق الأوسط بصياغة فكرة من نوع (افعلها معنا وستبقى على طبيعتك). لأنها تجسد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط من جهة، والتوجه نحو التعاون من جهة أخرى، من دون التعدي على التقاليد والقيم والثقافة والأنظمة السياسية في هذه البلدان".

من المؤكد أن فكرة سوتشكوف تستحق أن تعمَّم على تجارب التعاون بين البلدان، ولكنها تطرح عدداً من الأسئلة المشروعة في مقدمتها: هل المقصود بالتعاون، الشعوب التي ثارت على أنظمتها على أمل التغيير أم الأنظمة الشمولية المتمسكة بالسلطة؟ وما هي الضمانة بعدم استخدام الأنظمة العلاقات مع روسيا كورقة ضغط على الجانب الأميركي، من أجل السماح لها بمواصلة قمع شعوبها كما كان الحال في حقبة الحرب الباردة؟ وأخيراً، ما هي طبيعة العمل المشترك بين اقتصادات ريعية تتنافس في ما بينها في مجال بيع النفط والغاز وجلب الاستثمارات التقنية الغربية؟ ولعل السؤال الأهم هو: ما حقيقة أن المجتمعات في روسيا والبلدان العربية ترغب بالبقاء على طبيعتها الحالية في ظل التهميش والفقر وسيطرة النخب المتسلطة ورجال الدين؟

الإجابة عن الأسئلة تكشف أن الطرفين الروسي والعربي، يحتاجان إلى إعادة بناء داخلية للدولة والمجتمع على أسس عصرية ديمقراطية، وبعدها يمكن بناء علاقات متوازنة يؤثر ويتأثر كل طرف بالآخر لمصلحة تقدم الشعوب، من دون التقليد الأعمى الذي مارسته النخب اليسارية في الزمن السوفييتي، والذي عبرت عنه النكتة حول حمل الشيوعيين العرب المظلات حين تمطر في موسكو. عموماً، إن "القوة الناعمة" تحتاج إلى إمكانات مادية ومجتمعية ضخمة، لكن أكثر ما تحتاجه هو بعض اللمسات الخلاقة، ففي عز الحرب الباردة استطاع شعار الدب "ميشا"، تغيير الصورة النمطية الشائعة عن وحشية الدب كنايةً عن استخدام الروس للقوة المفرطة، وحولته إلى رمز للمحبة بين الرياضيين في أولمبياد موسكو في عام 1980. وفي العقود الأربعة الأخيرة، تضاعفت ترسانة روسيا العسكرية وباتت تملك صواريخ أسرع بمرات من سرعة الصوت لكنها لم تستطع بناء أجيال جديدة تتذوق الأدب الروسي والسوفييتي، وباتت علامة صنع في روسيا شبه مقتصرة على الأسلحة الفتاكة بالشعوب، وعاد مصطلح الدب رمزاً للوحشية.

المساهمون