القهر الاقتصادي للفلسطينيين في لبنان: المأساة مستمرة

16 مايو 2014
مخيم صبرا وشاتيلا... عتمة الصباح (أنور عمرو/فرانس برس/getty)
+ الخط -

لا ملامح قرية ولا مدينة. لا ناطحات سحاب ولا شجر. هنا يوجد فقط الكثير من البشر وبيوت مبعثرة وطرقات، لا بل أزقّة ضيقة معتمة. هنا، تتشابك حبال الغسيل مع "قساطل" (امدادات) المياه التي تمتد فوق رؤوس المارة لتصل إلى البيوت. قد يصدف أن تلتف كابلات الكهرباء على "قسطل" المياه، قد يجد الناظر إلى السماء مجموعة ضخمة من الكابلات التي تخفي أشعة الشمس بشكل مطلق، قد تكون تمديدات الكهرباء بين أقدام المارة، لا فوق رؤوسهم.

هنا مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت، حيث تحقير الدولة اللبنانية للإنسان، أي إنسان، يتجلّى بضعف الخدمات حتى العدم. هنا، مخيم المجزرة الإنسانية التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية، وذهب ضحيتها مئات الفلسطينيين في العام 1982، ومخيم المجزرة الاقتصادية والمعيشية التي ترتكب بحق اللاجئين الفلسطينيين، حتى اللحظة.

خدمات رسمية معدومة

تعابير وجوه اللاجئين في مخيم صبرا وشاتيلا لا تشي سوى بالظلم الواقع عليهم. تجاعيد كبار السن تكاد تصرخ وجعاً. حتى الطابة المهترئة التي تتقاذفها أقدام الأطفال غريبة الشكل، وكأنها صنعت خصيصاً للفقراء. هنا، في المخيم، يغلب اللحن الفلسطيني. لحن حزين يترافق مع صوت "أبو عرب"، ولحن حماسي يدعو للثورة، ولحن خفيض الصوت لمغنية لبنانية يصدر من أحد البيوت، ربما ترقص على أنغامها فتاة فلسطينية عاشقة. وفي هذا المخيم مئات الشباب الذي يدرس ويتعلم ولا يجد سوى الشارع ملاذاً.

يشكو سكان المخيم من انقطاع شبه تام للكهرباء الرسمية، بحيث ترتفع أصوات المولدات الكهربائية ليلاً، بشكل يتعدى الإزعاج إلى التعب. تضحك سيدة عجوز حين سؤالها عن المياه، تجيب محركة يدها، وكأنها ترقص، وتقول بابتسامة خجولة: "مياه؟ وهل نحن أحياء لنشرب؟". إذ أن واقع المياه كما الكهرباء، انقطاع شبه دائم، واستعانة دائمة بالمياه المعبأة.

وحال مخيم صبرا وشاتيلا، ينطبق على غالبية مخيمات الفلسطينيين في لبنان. إذ تشير دراسة قامت بها الأونروا بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت حول "الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات" والتي شملت 32 مخيماً وتجمعاً للفلسطينيين، أن في لبنان ما بين 260 ألفاً إلى 280 ألف فلسطيني، ما زالوا يقيمون فيه وذلك من بين عدد اللاجئين الإجمالي المسجل لدى الأونروا والذي يبلغ 425 ألفاً.

وتلفت الدراسة إلى أن 40 في المئة من المساكن في المخيمات تعاني من مشاكل نَشّ المياه، سواء من فوق الأسطح أو من خلال الجدران، بينما تعلو نسبة 8 في المئة من المساكن أسطح معدنية أو خشبية... وتتركز المساكن المتردية الحال في الجنوب، خصوصاً في مخيمَي الرشيدية وعين الحلوة، كما في التجمعات السكنية في صور.

ويعاني أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين من مشكلة في السكن، فيما تعاني نسبة 39 في المئة منهم من انقطاع المياه.

في حين يشرح تقرير "المنظمة الأميركية للشرق الأدنى لمساعدة اللاجئين" أن "مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تعتبر أسوأ مخيمات اللاجئين في المنطقة العربية من حيث الفقر والصحة والتربية وظروف الحياة".

ويلفت التقرير إلى أن "اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يعانون من التمييز والعزلة والفقر والبطالة ومشاكل السكن، إضافة إلى غياب المدارس الحقيقية وأنظمة الصرف الصحي".

ويضيف التقرير "في لبنان أعلى معدل من اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في فقر مدقع. ويعيش فلسطينيان من أصل ثلاثة بأقل من ستة دولارات في اليوم".

البطالة سمة عامة

قرب "دكانة" (متجر) صغيرة معتمة، واقعة في أحد أزقة مخيم صبرا وشاتيلا، يقف شاب عشريني وكأنه يسند الحائط بقدمه لا العكس، إذ تبدو الحجارة في المخيم وكأن عمرها آلاف السنين. "ما هي وظيفتك؟". سؤال كفيل بأن يحني الشاب نحو الأرض ضحكاً: "في لبنان، يتخرج الفلسطيني من الجامعة لكي يهاجر، وأنا انتظر الفيزا نحو السويد".

وتقول دراسة "الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات أن نسبة العاطلين عن العمل بين الفلسطينيين المقيمين في لبنان تبلغ 56 في المئة. وتشرح الدراسة أن حجم القوة العاملة يبلغ حوالى 120 ألف شخص يعمل منها 53 ألفاً.

أما من حيث توزعهم على القطاعات الاقتصادية، يعمل 72 في المئة من الفلسطينيين في القطاع الخاص للخدمات، و17 في المئة في قطاع البناء، و7 في المئة في الزراعة، و3 في المئة في الصناعة.

وتشير دراسة صادرة عن مكتب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أن غالبية العمال الفلسطينيين يتقاضون أجوراً متدنية جداً، إذ تكشف الإحصائيات أن 38% منهم يتقاضون بين 320 و500 دولاراً. ولفتت إلى أن الـ 12% تحصل على الأجر الأفضل بين الفلسطينيين العاملين في لبنان، إذ تتجاوز أجورهم 500 دولار أميركي، كونهم يعملون في "الأونروا"، أو مهندسين أو أطباء وممرضين.

مخيمات الفقر

في شارع في مخيم صبرا وشاتيلا، يلعب الأطفال بالكرة، يضحكون كثيراً، ويختلفون فيما بينهم، ومن ثم يتابعون اللعب، لا يهتمون بالأسئلة التي توجّه إليهم، يوزعون ابتسامات مجانية فقط، ويتابعون رمي الكرة. إلا أن تفاديهم لأسئلة عن الحاجات التي يريدون الحصول عليها، لا يخفي واقع المخيم البائس. فالفقر يسيطر على كل تفصيل من تفاصيل المخيم، والمرض يكاد يأكل أجسادأ نحيلة واهية.

وتوضح الأرقام حجم المأساة في المخيمات الفلسطينية، إذ تقول دراسة "الأوضاع  الاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات" أن نسبة 62 في المئة من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في المخيمات، فيما يعاني ثلثا هؤلاء، أي 160 ألفاً منهم، من الفقر، وتعاني نسبة 7.9 في المئة منهم من الفقر المدقع.

وتبيّن للباحثين أن 40 في المئة من اللاجئين الفلسطينيين هم من المحرومين. إلى ذلك، وجدت الدراسة أن نسبة الفقر تبدو أكثر ارتفاعاً لدى الأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و19 سنة، لا سيما مع اضطرارهم للعمل.

أما على الصعيد الصحي، وجد الباحثون أن نسبة 72 في المئة من العائلات تعاني من إصابة أحد أفرادها بمرض مزمن، أو أكثر. وتسجل لدى نسبة 15 في المئة منها إعاقة واحدة على الأقل، ولدى نسبة 41 في المئة نوع من الكآبة المزمنة.

رحلة قانونية ظالمة

واقع الفلسطينيين في لبنان يمكن معرفته بالأرقام. أرقام كثيرة ودراسات وأبحاث لم تخلص إلى إنهاء مأساة اللاجئين في لبنان. تقول مذكرة أعدتها مؤسسة "شاهد لحقوق الإنسان" في لبنان، أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يعاملون كأجانب محرومين من أبسط الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية من حيث العمل والملكية، وما يتفرع عنهما من حقوق كثيرة. وتلفت الورقة إلى أنه بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان 1982 أصدرت وزارة العمل اللبنانية القرار 189 بتاريخ 1982 والذي قضى بمنع الفلسطينيين من ممارسة أكثر من 60 مهنة بالاضافة الى مجموعة من القرارات الادارية صدرت عن وزارة العمل، وحددت فيها الشروط الواجب توفرها للحصول على اجازة عمل.

وعام 1983 صدر قرار بمنع جميع الأجانب من مزاولة 75 وظيفة. وجاء التجديد على هذا القرار في 19 ديسمبر/كانون الأول من عام 1995 وكانت الفقرة الثانية منه تنص على "إمكانية استثناء بعض الأجانب من القرار، في حال كانوا يعيشون في لبنان منذ الميلاد. من جذور لبنانية أو ولد لأم لبنانية أو متزوجين من لبنانية لأكثر من سنة". إلا أن هذا القانون لم يحسن من أوضاع العمالة الفلسطينية بسبب التشدد الكبير في إصدار أذونات العمل من وزارة العمل اللبنانية.

وفي العام 2005 أصدر وزير العمل طراد حمادة مذكرة يجيز فيها للفلسطينيين المولودين على الأراضي اللبنانية والمسجلين بشكل رسمي في سجلات وزارة الداخلية اللبنانية بالعمل في المهن المختلفة. إلا أن هذه المذكرة استبعدت العمل في المهن الحرة، وما لبثت أن توقف العمل بها، خصوصاً مع الاستمرار بالتقنين الشديد في منح اجازات العمل.

وفي العام 2010 أقر مجلس النواب اللبناني تعديلات على قانون العمل بما يسمح للاجئ الفلسطيني بالعمل رسمياً في كل القطاعات التي يسمح للأجنبي بالعمل فيها. إضافة الى إفادته من الضمان الاجتماعي من ضمن صندوق خاص. وكان ينقص هذا القانون قرارات من الحكومة اللبنانية (مراسيم) تحدد آلية التنفيذ... إلا أن هذا القانون غاب في أدراج الحكومة ووزارة العمل تحديداً، كما اختفى من لائحة مطالب البرلمانيين.

وفي العام 2012، استقال وزير العمل السابق شربل نحاس، وقبل مغادرته مكتبه، وقع على قرار يسهل عملية حصول الفلسطينيين على إجازة عمل في لبنان. وإن كان نحاس انتظر حتى اللحظة الأخيرة من ولايته الوزارية ليصدر هذا القرار، جاء خلَفه الوزير سليم جريصاتي ليوقف العمل بالقرار بعد أيام من إصداره.

ويتزامن هذا القهر القانوني، مع واقع متناقض، إذ أن كل الفلسطينيين المقيمين في لبنان، ينفقون ما يجنونه في الأسواق اللبنانية، لا بل يدفعون كافة الضرائب والرسوم التي يدفعها اللبنانيون.

وبالتالي، يشكل الفلسطينيون جزءاً من الدورة الاقتصادية اللبنانية العامة، بعكس العمال الأجانب. إلا أن مساهمة اللاجئين بالناتج المحلي الإجمالي، لا تغيّر النظرة العنصرية الرسمية تجاه الفلسطينيين، بحجة حق العودة تارة، وبحجة أولوية تقديم الخدمات للبنانيين تارة أخرى.

واقع غريب، يجعل من حق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، متعارضاً مع الحقوق الإنسانية للاجئين. فالفلسطينيون في لبنان، كما يعبر عدد كبير منهم، ينتظرون لحظة عودتهم إلى أرضهم، ولحظة خروجهم من حفرة العنصرية التي تمتد من رأس الناقورة جنوباً حتى النهر الكبير شمالاً.

المساهمون