القناعات ليست صناعة خفيفة

12 سبتمبر 2014

عمل لـِ"غاري وواتر"

+ الخط -

ليست القناعات الفكرية والإيديولوجية والسياسية والأخلاقية منتوجات صناعية، سريعة التصميم والإنجاز والتنفيذ، أو مواد تجارية معروضة للبيع على الرصيف. هي تمارين وخياراتُ، يحتاج تشكّلها عوامل كثيرة ومتداخلة، منها خصوصاً الاستعداد النفسي والذهني، والقدرة على الالتزام والتعاقد، ومواصلة المسار من دون انزلاقات أو انحرافات أو سقطات تمليها النفس الأمّارة بالنزوات والطموحات الشرعية وغير الشرعية، أو تقف وراءها رغبات الوصول السريع إلى قمم الثروة والسلطة أو التسلّط والاستبداد.

في السياقات الاجتماعية والاقتصادية المتوترة، والرجّات السياسية الكبرى المؤسِّسة، والعواصف الفكرية المُهَيكِلة، والزلازل الإعلامية المؤثرة، تصبح القناعات أكثر عرضة للتخلخل والاختلال، وقد تُصاب بتصدّعٍ في جدار المناعة المكتسبة عبر سنوات من التربّصات والتدريبات والمناورات.

ويستفحل خطر إصابة القناعات بأمراض فتاكة ومزمنة، في اللحظات التي ينزل فيها ضباب كثيفٌ على كل الطرق والمسالك والمعابر المؤدية إلى المستقبل. حيث تكثر أسباب الحيرة والارتباك والخوف والتردّد في الانخراط في أي دينامية، أو حركية تروم التغيير والتطهير والإصلاح والبناء، وإقامة الأسس الصلبة لدولة المؤسسات، لا الأفراد، ولمجتمع المواطنين، لا الرعايا.

الأخطر في المسألة، أن يصاب رادار الفاعل السياسي بعطبٍ في اشتغاله، ما يجعله في حالة انفصال وعدم اتصال بالواقع والوقائع. ومثل مَن يجد نفسه في صحراء ممتدة في اللامتناهي، تغطي جغرافيتها العواصف الرملية المسترسلة والحاجبة للرؤية، كذلك هو الشأن بالنسبة للفاعل الذي يتأخر، لأسبابٍ كثيرة، في قراءة التحولات واتجاهات الأحداث.

في بلدانٍ عربية تضخَّم لديها وهم الاستثناء، إلى درجة تكفير كل مَن ينادي بالتغيير والإصلاح وتخوينه، بدا المشهد ملتبساً إلى حد كبير، وسيطرت الضبابية والانتظارية، وتمهّل كثيرون في السير نحو أفقٍ ما، خشية الوقوع في المحظور، وبالتالي، فقدان التحكّم في الأمور، بسبب قوة الموجة التي قد تضرب البلاد، وتبتلع العباد في حال عدم وجود خطط لمواجهة كل الاحتمالات.

ويبدو أن علامات التخبّط والاضطراب، التي طبعت سلوك فاعلين حزبيين ومسؤولين سياسيين وتفكيرهم، ناجمة عن سوء تقدير لدينامية الواقع، وجاهزية المجتمع لاستقبال وإيواء فعل اجتماعي سياسي مبدع ومغيّر ومجدّد، حيوي، تفاعل وتقاطع مع الهزات التي تعيشها المنطقة العربية. فليس عيباً أن نتخذ مواقف معيّنة تجاه حدثٍ ما، وليس جريمةً أن نكيّف قناعاتنا وفق الممكن المجتمعي والسياسي، بما لا يضرب، في العمق، القيم والمبادئ التي صاغتها. وليس بدعة أن نطور أفكارنا ونجددها، عندما تقتضي الضرورة ذلك. لكن، عكس هذا تماماً أن نصمم ونفصل ونفصلها بسرعة قياسية، وكأن الأمر يتعلق بصناعة خفيفة وبكميات وافرة استجابة لقانون السوق. ونلاحظ كيف أن فاعلين كثيرين انقلبوا على تاريخهم ومساراتهم، وقايضوا كل عدتهم الأخلاقية والفكرية بمنتوجٍ لم تتحدد بعد هويته ونَفَسه الإصلاحي، ووجد كل متتبّع موضوعي، يحتكم إلى العقل والعقلانية، صعوبة في تفكيك طلاسم هذا التحوّل، وفهم خطاب هؤلاء الفاعلين. والأنكى في هذا كله مشاعر الابتهاج التي توطدت لدى هؤلاء، وجعلتهم سعداء مطمئنين، ناهيكم عن جرعةٍ مفرطة في الشعبوية والذرائعية.

هناك صنف آخر، يتمثّل في ميليشيات مخصّصة لبثّ التشويش، وزعزعة قناعات الناس، وترهيبهم بوسائل مبتذلة، ومرفوضة بمنطق الزمان الذي نعيش فيه. وهذه الميليشيات نوع من البلطجية الذين لا يجدون حرجاً في التحوّل من هذا المعسكر إلى ذاك، أو تغيير الوجه ألف مرة في اليوم، لأن ما يهمهم استمرار مصالحهم ومواقعهم وامتيازاتهم. وتألفهم راديكاليين ومحافظين ومتفتحين ومنغلقين، ولا يترددون في استعمال كل الأسلحة. بل هم مستعدون لحبك كل المؤامرات وتنفيذها، وقلب الحقائق وتزييف الوقائع. وحسب منطقهم الانتهازي، يصير العبد حراً، والحر عبداً، والكريم لئيماً، واللئيم كريماً، والوصولي شريفاً، والشريف وصولياً، والوطني خائناً، والخائن وطنياً.