باتت قضية فلسطين اليوم مقيّدة بسلسلة فولاذية متينة إلى محطة الانتظار السياسي. فالجميع ينتظر عقابيل الدوامة الدموية العربية الدائرة وقائعها في كل مكان تقريباً. وبالتأكيد، لا أحد يعلم إلى أي مستقر تجري أمورنا المتسربلة بالفوضى والموت اليومي.
فمصر، على سبيل المثال، غُمرت إلى حقبة مديدة باستبداد العسكر وبالاضطراب الأمني والسياسي، بل إن السياسة أعلنت موتها في أرض النيل. وسورية تلتهب بحرائقها التي ستقضي على نخبها الفكرية والسياسية والثقافية، وستحوّل تاريخها العظيم إلى رماد.
وفي العراق موت طائفي على امتداد الأرض التي شهدت ظهور أقدم مدينة وأقدم حرف وأقدم ملحمة في التاريخ الإنساني.
وها هي نداءات الحرب في اليمن تستسقي الدم، ولم يبقَ في ليبيا إلا الرمال والنفط والقبائل الغاضبة، وها هو الإرهاب يعود إلى الجزائر من بوابة الانهدام التاريخي بين الطوارق والعرب، أو بين الإباضية والسُنّة.
وفي خضم هذا "الهريان" العربي تبدو فلسطين مثل فتاة مسكينة تائهة في الغابات الموحشة والمتوحشة.
* * *
لم يظفر الفلسطينيون باستقلالهم السياسي إبان حقبة التحرر الوطني في أربعينيات القرن العشرين فصاعداً. ولم يتمكنوا من طرد الاحتلال الإسرائيلي في أثناء الحرب الباردة على الرغم من التضحيات الجبارة التي بذلها الجميع، ولا سيما اللاجئون في سورية ولبنان وغزة.
وما فعلته منظمات الكفاح المسلح، خصوصاً حركة فتح، أنها أطلقت مقاومة مسلحة نجحت في تحويل الفلسطينيين من لاجئين متذرّرين إلى شعب فخور بنفسه، يتطلع إلى الحرية، ومستعد للموت في سبيلها.
لكن اليوم، بعد خمسين سنة على الكفاح المسلح، يلوح لي أن من المحال التقدم خطوة واحدة حاسمة إلى الأمام في قضية فلسطين، ومن المستبعد أن يتمكن الفلسطينيون من تحقيق إنجاز جذري في هذه المرحلة المدلهمة والعصيبة.
والراجح عدم وجود خيارات ذات شأن أمام الفلسطينيين، وليس لدى القيادة الفلسطينية أي خطط بديلة، كما أن النخب الفلسطينية "المجرّبة" عاجزة عن ابتداع أي مخارج ممكنة من هذا الاستعصاء المعطِّل.
ومع ذلك، فلا بد من قدح الشرر في هذا الليل البهيم الذي تطاول سواده وامتدت عتمته. وثمة أفكار أولية ربما تصلح لأن تكون فاتحة لنقاشات واقعية في هذا الشأن مثل فكرة "الانتظار الإيجابي".
والانتظار الإيجابي نقيض للانتظار السلبي، لأن الانتظار السلبي هو كمن يقف في محطة القطارات مودّعاً وملوِّحاً بالمناديل، بينما الانتظار الإيجابي هو كمن يجهّز حقائبه كي يصعد في اللحظة الملائمة إلى القطار.
والانتظار الإيجابي، يعني في حده الأدنى، تمكين الشعب الفلسطيني من التشبّث بأرضه، والإبقاء على جذوة قضيته الوطنية متّقدة، وإعادة ربط الشتات الذي ما فتئ يتمدّد ويتوسّع، بالقضية الأصلية، ثم استعمال جميع أوراق القوة في سبيل ذلك كالمقاطعة الأكاديمية والاقتصادية ومحكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل ومنابر الأمم المتحدة ولا سيما الأونيسكو.
صحيح أن هذا كلّه ربما لن يعيد حتى بعض الحقوق المغدورة والمهدورة، إلا أن ذلك مهم جداً إذا كان شوطاً في مسيرة طويلة لنزع شرعية إسرائيل في النطاق الدولي، وفضح مزاعمها عن الديمقراطية، ومعاقبتها إذا أمكن ذلك، والاستعداد الاستنفاري لاقتناص أي تحوُّل سياسي لمصلحة فلسطين.
وهذا الأمر يتطلّب قيادة سياسية شجاعة وحازمة وذكية ومتحفّزة وذات رؤية، وهي، مع الأسف، غائبة كليّاً عن ديارنا.
* * *
أطلق بعض غير الظرفاء على حركة فتح بعد معركة الكرامة في سنة 1968 لقب "تنظيم الباص". والمقصود أن أي شخص كان في إمكانه، غداة تلك المعركة، أن يقود باصاً إلى أي محطة من محطات عمّان، ويدعو الناس إلى التطوّع في صفوف الفدائيين، فيمتلئ الباص بسرعة.
والحقيقة أن قضية فلسطين ليست باصاً، بل هي قطار لا يتوقف عن المسير نحو هدفه. وفي كل محطة هناك من يصعد إليه، وهناك مَن ينزل منه. والقطار ما برح سائراً ولو ببطء على الرغم من أن الصاعدين إليه يتناقصون رويداً رويداً. ومع ذلك فالقطار يسير.
(باحث فلسطيني/ بيروت)